الأستاذ: ادريس ميموني
تقديم:
تعتبر مسألة تأويل النص وفهمه من القضايا التي ارتبط وجودها الملح في تراثنا العربي قديما، بمعجزة نزول القرآن الكريم ، وحديثا بمحاولة كشف الأسس المعرفية التي وجهت هذه العملية.
لقد طرحت قضية فهم القرآن الكريم وكذا تأويله ، في جميع العلوم الإسلامية قضية إيجاد علم يؤسس لعملية الفهم والتأويل معا ، وهو ما عمل الأصوليون على بلورته داخل مناهج تجريدية تهتم أساسا بتحديد طرق ووسائل إدراك المعنى، واستخراجه من النص القرآني ، ومن أجل ذلك قاموا بتقنين طرقهم ، وتحديد قواعدهم ، وذلك لإدراكهم القوي بأن عملا كهذا لابد من أن يكون مصحوبا بنظرية لغوية متكاملة وشاملة .
لقد كان في أسباب تأليف الشافعي للرسالة مايؤكد هذا التوجه، فتأليفه لها يعد هدفا لتأسيس علم يجنب المستنبط سوء فهمه للخطاب القرآني في وقت امتزجت فيه اللغة العربية باللغات الأجنبية ، كما كثر الدخيل في لسان العرب ، مما تسبب في فساد السليقة العربية ، فضعفت المدارك عن فهم مقاصد الشريعة ، وقد أشار الشافعي في الرسالة غير ما مرة إلى هذا السبب ، كما ندد كثيرا بمن تكلموا في العلم وهم يجهلون أساليب العرب ، مما أدى إلى اختلافات ومنازعات كان المسلمون في غنى عنها([1]).
لقد عمل الأصوليون منذ عهد الشافعي إلى أن استوت مناهج الاستنباط على سوقها ، كما نلاحظ ذلك مع الغزالي في المستصفى، على تدعيم هذه الوجهة وتثبيتها ، ولعلنا لا نتجاوز الحقيقة إذا قلنا إن طريقة رصد الأصوليين لمعاني خطاب القرآن ، تعد إسهاما حقيقيا في تاريخ الفكر اللغوي العربي الإسلامي خاصة ، والإنساني عامة.
ويرى كثير من الدارسين المحدثين، أن الأصوليين كانوا أول من تصدى لدراسة المعنى بطريقة علمية لارتباطه بالحكم الذي يراد فهمه وتطبيقه ، ومن ثم اتجهت دراسة المعنى عندهم هذه الوجهة العلمية التجريدية ([2]).
ونظرا لكون قضية تحديد النظرية اللغوية عند الأصوليين في فهم الكلام الإلهي، تعتبر نتيجة استدلالات مفصلة موجودة في مجالات معرفية متعددة بالإضافة إلى مجال اللغة. كان لابد - للنظر في المادة اللغوية عندهم - من البداية بالنظر في ألوان المعرفة التي يتوقف عليها علم أصول الفقه نظرا لأهمية ذلك في الوقوف على الملامح الحقيقية لهذه النظرية ، بالإضافة إلى رصد علاقة التكامل والتداخل بين العلوم ، ثم " إن مبادئ العلوم (كما يقــول ابن سينا) وخصوصا الجزئية تتعرف إما من علوم جزئية غيرها ، أو من العلم الكلي الذي يسمى فلسفة أولى، فليس يمكن أن نبرهن على مبادئ العلوم من العلوم نفسها " ([3]).
ومعنى كلام ابن سينا هنا ، أن كل العلوم الدينية وغيرها بما في ذلك علم أصول الفقه ، تعتبر فروعا تابعة للأصل الثابت ، الذي تقرر بشكل يقيني قطعي ، نقلا وعقلا ، وهو علم الكلام ، الذي يبحث في الأصل (أي العقيدة) ويقررها بطرق الاستدلال وأساليب البرهان ، إذ لا معنى لشريعة صحيحة دون أن تكون مرتكزة على عقيدة دقيقة ثبت يقينها قطعيا .
إذا كنا فيما سلف قد أبرزنا قيمة علم الكلام وتداخله مع علم أصول الفقه، فإننا ننبه في مقابل هذا إلى تداخل علم اللغة بعلم الأصول وكذا تداخلها مع علم الكلام ، هذا التداخل الذي نلاحظ آثاره عند متابعة كثرة التفريعات المسطرية اللغوية المدمجة مع غيرها من المساطر الكلامية والفقهية ، وهو ما يجعل المتتبع لهذه العلوم حائرا في تحديد هوية ونوعية المباحث التي يقرأها ، أهي لغوية أم كلامية أم فقهية ، وهذا إن دل على شيء ، إنما يدل على أن الحدود بين الفقه وأصوله من جهة وبين اللغة والكلام والأصول من جهة أخرى تتلاشى وتزول ، وأن الفروق تضيق فلا تكاد تبين.
إن هذا الكلام يدل على أن المقدمات النظرية في اللغة والكلام قد سجلت ونفذت في علم أصول الفقه ، وهو في نظرنا أمر طبيعي ، خصوصا إذا علمنا أن الأصوليين أنفسهم يجمعون على أن أصول الفقه ليس " إلا نبذ جمعت من علوم متفرقة ، نبذة من النحو (...) ونبذة من علم الكلام (...) ونبذة من اللغة (...) ونبذة من علم الحديث ، فلم يبق في أصول الفقه إلا الكلام في الإجماع وهو من أصول الدين أيضا ، وبعض الكلام في القياس والتعارض مما يستقل به الفقيه ، فصارت فائدة الأصول بالذات قليلة جدا ، بحيث لو جرد الذي ينفرد به ما كان إلا شيئا يسيرا "([4]).
لقد تأكد هذا المعنى لأصول الفقه عند إمام الحرمين منذ الصفحات الأولى للبرهان وهو بصدد وضع المقدمات الأساسية للخوض في هذا العلم ، حيث نبه طلبة العلوم - ومن ضمنها أصول الفقه - إلى الكثير من المفاتيح التي يمتلكون بها ناصية علم من العلوم فقال : " حق على كل من يحاول الخوض في فن من فنون العلوم أن يحيط بالمقصود منه وبالمواد التي منها يستمد ذلك الفن ، وبحقيقته وفنه وحده ، إن أمكنت عبارة سديدة على صناعة الحد ، وإن عسر فعليه الدرك بمسلك التقاسيم ، والغرض من ذلك أن يكون الإقدام على تعلمه مع حظ من العلم الجملي بالعلم الذي يحاول الخوض فيه"([5]) وهو ما عبر عنه الغزالي في المستصفى بقوله : " ... فكل علم لا يستولي الطالب في ابتداء نظره على مجامعه ولا مبانيه فلا مطمع له في الظفر بأسراره ومباغيه " ([6]).
لقد جسد الآمدي أيضا هذا المنطلق (أي التداخل والتكامل) في كتابه الأحكام وهو يضع القاعدة الأولى للتعريف بأصول الفقه ، حيث حث كل من حاول تحصيل علم من العلوم أن يتصور معناه ، ويعرف موضوعه ومقصوده - حتى لا يكون سعيه عبثا - وما منه استمداده لصحة إسناده عند روم تحقيقه إليه ، وأن يتصور مبادئه التي لابد من سبق معرفتها فيه لإمكان البناء عليها . ([7])
انطلاقا من هذه النصوص ، أصبح جليا أن البحث في موضوع علم أصول الفقه معناه ، كما قال الأصوليون ، البحث في موضوعه ومادته وما منه استمد هذه المادة لإمكان البناء عليها ، وهذا في اعتقادنا أن الأصوليين ، شأنهم في ذلك شأن جميع واضعي العلوم العربية الإسلامية ، لم يكونوا في لحظة من اللحظات ، وهم يضعون البناء النظري والقوانين الكلية لعلم أصول الفقه في معزل عن إنجازاتهم في علم الكلام ، كما لم يكونوا في معزل عما تقرر في اللغة نحوا وبلاغة.
لذا لابد للباحث في هذا الموضوع من ثلاث وقفات ، على الأقل ، يتساءل فيها عن أوجه التداخل والتكامل بين المصادر الثلاثة (علم الكلام وعلم اللغة والفقه) علما بأن الأصولي والمتكلم كما يقول سعيد بنسعيد العلوي في كتابه "الخطاب الأشعري" ، يشتركان في عملية قراءة القرآن ، أو لنقل فهم القرآن ، كما يشتركان في الوسيلة المستعملة في عملية الفهم والتي هي اللغة العربية مادة القرآن الكريم.
1- علم الكلام : مكانته وصلته بعلم أصول الفقه:
تنقسم العلوم وفق نظرة المتكلمين (أشاعرة ومعتزلة) إلى عقلية ودينية عندما يكون البحث في مجالها ، وإلى كلية وجزئية ، عندما يكون البحث في موضوعها ، وإلى ضرورية وما يتوصل إليه بالنظر والاستدلال ، عندما يكون البحث في طبيعتها وإلى يقينية وتخمينية عندما يكون البحث في الصفة المستفادة منها .
إن ما يهمنا من سائر هذه التقسيمات هو الجانب الراجع إلى موضوعها (أي إلى كلية وجزئية) والعلم الكلي في العلوم الدينية هو علم الكلام وسائر العلوم من فقه وأصوله وحديث وتفسيره علوم جزئية ، وتعليل ذلك ، أن المفسر لا ينظر إلا في معنى الكتاب خاصة ، والمحدث لا ينظر إلا في طريق ثبوت الحديث خاصة ، أما الفقيه فلا ينظر إلا في أحكام أفعال المكلفين خاصة ، والأصولي لا ينظر إلا في أدلة الأحكام الشرعية خاصة ، والمتكلم هو الذي ينظر في أعم الأشياء وهو الموجود ، ومقصود علم الكلام هو إقامة البرهان على وجود الرب وصفاته وأفعاله ، إذ لا نظر إلا في الله ، ولا مطلوب سوى الله ، كما يقول الغزالي .
ويترتب هذا المقصود على أربعة أقطاب : ذات الله ، وصفاته ، وأفعاله والرسل ، ويتفرع هذا القطب الأخير إلى أربعة أبواب هي : نبوة محمد صلى الله عليه وسلم والآخرة والإمامة وتكفير الفرق المبتدعة ، فعلم الكلام إذن هو المتكفل بإثبات العلوم الدينية كلها ، فهي جزئية بالإضافة إلى علم الكلام ، فهو العلم الأعلى في الرتبة إذ منه النزول إلى هذه الجزئيات ([8]).
لقد تأكد من خلال ما سلف ما لعلم الكلام من قيمة ، على الأقل في نظر أهله - في مجال العقيدة والفكر، وهي قيمة جعلت من علم الكلام أصلا والعلوم - بما في ذلك علم أصول الفقه -كلها فروع تابعة لدورانه ومنقادة بانقياده ، والدليل على ذلك ما جاء على لسان الغزالي حين قال : " وذلك أنه ما من علم من العلوم الجزئية إلا وله مبادئ تؤخذ مسلمة بالتقليد في ذلك العلم ، ويطلب ثبوتها في علم آخر، فالفقيه ينظر في نسبة فعل المكلف إلى خطاب الشرع في أمره ونهيه ، وليس عليه إقامة البرهان على إثبات الأفعال الاختيارات ... وكذلك الأصولي ، يأخذ بالتقليد من المتكلم ، أن قول الرسول صلى الله عليه وسلم حجة ودليل واجب الصدق ، ثم ينظر في وجوه دلالته وشروط صحته ، فكل عالم بعلم من العلوم الجزئية - كما يقرره المتكلمون- فإنه مقلد لا محالة في مبادئ علمه ، إلى أن يترقى إلى العلم الأعلى فيكون قد جاوز علمه إلى علم آخر" ([9])وبالنظر إلى هذا الدور المنوط بعلم الكلام فقد أشاد بفضله غير قليل من أصحابه ، فهذا أبو عثمان الجاحظ يقول : " هو معيار لكل صناعة، وزمام على كل عبارة ، والقسطاس الذي به يستبان نقصان كل شيء ورجحانه ، والراووق الذي به يعرف صفاء كل شيء وكدره "([10]).
فعلم الكلام وفق هذه النظرة ليس مجرد ذلك العلم الذي يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية ، والرد عن المبتدعة المنحرفين ([11]) ولا هو مجرد العلم الذي " يبحث فيه عن ذات الله تعالى وصفاته ، وأحوال الممكنات من المبدأ والمعاذ ، على قانون الإسلام" ([12]). فهو ما يتناول على حد تعبير الجاحظ ، كل صناعة ، وكل عبارة ، بل إنه منهج يقاس به الصحيح والفاسد من كل شيء ، وهو فوق ذلك " ما يبتدئ نظره في أعم الأشياء أولا ، وهو الموجود ، ثم ينزل بالتدريج إلى التفصيل ... فيثبت فيه مبادئ سائر العلوم الدينية من الكتاب والسنة وصدق الرسول "([13]) وبذلك يكون علم الكلام هو أساس صحة كل ثقافة كما يؤكد ذلك الجاحظ حين قال : " إن كل من لم يكن متكلما حاذقا ، وكان عند العلماء قدوة وإماما ، فما أقرب إفساده لهم من إفساد المتعمد لإفسادهم" ([14])، ومتى وصلنا إلى هذه المرحلة ، استشرفنا النتيجة النهائية التي يروم الجاحظ بلوغها ، وهو إلحاحه على افتقار كل من يتصدى لتأويل النصوص اللغوية المتعلقة بالدين إلى علم الكلام " فلو كان أعلم الناس باللغة لم ينفعك في باب الدين حتى يكون عالما بالكلام" ([15]).
لقد ترسم المعتزلة (مثلا) هذا المعنى للتأويل في منهجهم في فهم النصوص القرآنية والأحاديث النبوية ، وقد كان لهذا التأويل عندهم ، مجموعة من الأدوات أجملها أحد أقطاب الاعتزال -الشريف المرتضي- في وقفته عند آية من سورة يوسف عليه السلام { ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه ، كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين } ([16]).
قال : " إنه إذا ثبت بأدلة العقول التي لا يدخلها الاحتمال والمجاز ، ووجوه التأويلات أن المعاصي لا تجوز على الأنبياء عليهم السلام ، صرفنا كل ما ورد ظاهره بخلاف ذلك من كتاب أو سنة ، إلى ما يطابق الأدلة ويوافقها ، كما يفعل مثل ذلك فيما يرد بظاهره مخالفا لما تدل عليه العقول من صفاته تعالى ، وما يجوز عليه أولا يجوز " ([17]).
فالأدوات هي العقل يساند أصول الاعتزال ([18]) واللغة ، والخبرة الممارسة للتأويل ، وهذا المعنى نفسه يتكرر عند القاضي عبد الجبار ، في كل مؤلفاته ، سواء عندما يتحدث عن شرف علم الكلام واستقلاليته ([19]) أو عندما يتحدث عن حاجة جميع العلوم إلى هذا العلم ، فجميع العلوم - في نظره - التي يحتاج إليها مفسر القرآن ، وفي مقدمتها اللغة ، تفتقر إلى علم الكلام ، ولاشك أن في قضية الربط بين علم الكلام واللغة من جهة وعلم الكلام والعلوم الأخرى من جهة ثانية سيكون له أكبر الأثر في تحديد كثير من القضايا والمفاهيم المتعلقة بعملية الفهم والتأويل ، فلو أنك طلبت تعريفا واضحا للتأويل عند الأشاعرة مثلا ، لوجدت فيه قولا للجويني ، وآخر للغزالي " ولكنك لا تجد شيئا من ذلك عند أبي الحسين البصري ، فلا تجد غير الاحتيال للأمر وسيلة ، ولا تجد وجها آخر للاحتيال ، سوى الفحص المتأني لجملة ما يقدم لتعريفات كل من النص والظاهر والمجمل ، عسى أن تخرج من ذلك بما يقربك من (اقتناص) دلالة التأويل ومعناه إن عجزت على الخروج بتعريف للتأويل في مجال أصول الفقه ، عند من قال فيهم البعض إنهم فرسان التأويل " ([20]).
وهذا في رأينا ليس من قبيل الصدفة ، مادام المعتزلة يجعلون العقل الأساس الأول في فكرهم، بل منه انطلق المعتزلة في تحديد أصولهم ومبادئهم ، وإليه رجعوا في تقريرها وتثبيتها ، حيث حكموه في التصور الاعتقادي ، كما اتخذوه منهجا في تأويل النصوص القرآنية والحديثية المتعلقة بها([21]) فللأمور عندهم " حكمان ، حكم ظاهر للحواس وحكم باطن للعقول ، والعقل هو الحجة "([22]) وبأمثال ذلك من عبارات وإشارات يعرض القاضي عبد الجبار إلى ما يلتقي فيه الأصلان اللذان سماهما الأقدمون ، أصل الاعتقاد وأصل العمل ، ويكون هذا الجزء - كما يقول القاضي - صنفا غير كثير ، ولا شائع في تناول الأصول العليا لأبحاث أصول الفقه من حيث التقاؤها مع أصول العقيدة ، بتناول ماقد يحمل أصحاب أصول الفقه القول فيه ، أو يتركون التعرض له أحيانا ، ويدع التفصيل لمكانه من تناول أصحاب الفقه وأصوله([23]).
ولعل ما قصده القاضي عبد الجبار في كلامه هنا ، ما يتصل بالقراءة التي يتم فيها إنتاج الأصول الأساسية التي يعمل بموجبها الأصولي وينصاع لسلطتها وتوجيهها ، وبعبارة أخرى نقول : إن أثر الكلام المذهبي يبقى حاضرا ولابد في أصول الفقه ، وخصوصا ما كان من أمر التأويل في قضايا الصفات الإلهية وعلاقتها بالذات وفيما خاضوا فيه من مستلزمات تلك الصفات، وأثرها على البشر، وما أورده أبو الحسين البصري من كلام بخصوص تعريفه للنص يغنينا ولو آنيا عن درجة حضور المذهب الكلامي على الأقل في مصنفات علماء الأصول الذين ألفوا على طريقة المتكلمين([24]) .
كما هو الشأن كذلك بالنسبة للغزالي الذي جعل من كبير همه إعلان الاختلاف مع أقوال المعتزلة وإظهار خطئها فيما ذهبت إليه. فهو لا يتردد في أن يأتي بجملة قضايا يظهر فيها أن المعتزلة تنتهي إلى حمل بعض الكلام في القرآن والسنة ، محمل المجمل والحال أنها نصوص قاطعة ، تنحسم معها جهة التأويل ([25]) يقول الجويني : " وإذا نحن خضنا في باب التأويلات وإبانة بطلان معظم مسالك المؤولين ، استبان للطالب الفطن أن جل ما يحسبه الناس ظواهر معرضة للتأويل فهي نصوص ، وقد تكون القرينة إجماعا واقتضاء عقل وما في معناهما " ([26]) وقد أورد الجويني هذا الكلام في سياق رده على المعتزلة الذين سكتوا عن التأويل ، فلم يضعوا له شرطا ولا قيدا ، وذلك حتى يتسنى لهم التوفيق بين احترام قداسة النص القرآني ، وبين مبادئهم التي قامت على أدلة العقول ، يقول الشريف المرتضي: " وإذا ورد على الله تعالى كلام ظاهره يخالف ما دلت عليه أدلة العقول ، وجب صرفه عن ظاهره ، إن كان له ظاهر، وحمله على ما يوافق الأدلة العقلية ويطابقها " ([27]).
ويعتبر هذا الموقف على خلاف مذهب الأشاعرة الذين لم يتهاونوا في قبول التأويل ، إذ تناولوه بشروط محددة تبين وجه قبوله ، يقول الغزالي : " وليس كل تأويل مقبولا بوسيلة كل دليل ، بل ذلك يختلف ولا يدخل تحت ضبط "([28]).
وبالنظر إلى ما أوردناه سلفا من نصوص تثبت العلاقة الوطيدة بين علم الكلام وعلم أصول الفقه ، فإنه لم يعد واردا استيعاب علم الأصول بعيدا عن علم الكلام ، وذلك لأن كثيرا من المقررات والمقولات الكلامية ذات الصبغة الفلسفية قد وجدت "طريقها إلى البنية الفكرية العامة للثقافة الإسلامية عبر مداخل أصولية ، مثل مباحث التكليف والتحسين والتقبيح العقليين ، بل إن علماء الكلام قد وجدوا بغيتهم في منهجية علم الأصول بما نقحته من آفاق للتفكير العقلي والحجاج المنطقي ... وعليه ، نستطيع أن نخلص إلى القول بأن التشابه بين العلمين في طريقة البحث ومنهجية التفكير ، قد كان سببا في تداخلهما ، وتوطيد علاقة أحدهما بالآخر " ([29]). وهو الأمر الذي يمكن للمتتبع أن يلمسه فيما ألفه المتكلمون في هذا المجال من أمثال أبي الحسن الأشعري وأبي علي الجبائي وأبي هاشم الجبائي والقاضي عبد الجبار وأبي الحسين البصري وأبي بكر الباقلاني ، ولعل كتاب هذا الأخير الجامع لجميع مباحث علم الأصول والمسمى (التقريب والإرشاد في ترتيب طرق الاجتهاد) خير شاهد على هذا. ولقد جاء تأكيد هذا التوجه على لسان علاء الدين بن الحنفي في ميزان الأصول حين قال : " اعلم أن أصول الفقه فرع لعلم أصول الدين فكان من الضرورة أن يقع التصنيف فيه على اعتقاد مصنف الكتاب ، وأكثر التصانيف في أصول الفقه لأهل الاعتزال المخالفين لنا في الأصول ، ولأهل الحديث المخالفين لنا في الفروع ولا اعتماد على تصانيفهم " ([30]).
وخلاصة الكلام في هذه المسألة نقول: " إذا كانت أصول الفقه التماسا لأدلة الأحكام من الكتاب والسنة والإجماع ، أو " العلم بالقواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية "([31]) ، وعلم الكلام " علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية والرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنة " ([32]) فإننا أمام قراءتين للقرآن الكريم ، قراءة الأصولي باعتبار القرآن خطابا للمكلفين وقراءة المتكلم باعتبار القرآن خطابا في العقيدة ، وهذا ما يجعل القراءتين متكاملتين ومتلازمتين غير أن ما يميز الأولى عن الثانية هو كون الثانية ترتبط بتشكيل الأصول وتقرير الكليات والمبادئ ، أما الأولى فهي إجراء من جهة وعمل وتوظيف وتطبيق من جهة أخرى ، أي تحقيق أصول المذهب على نحو ما تقرر عليه في علم الكلام ثم في أصول الفقه وإجراؤها في الفروع التي تكونت عن تلك الأصول ، وتوظيف الفروع العديدة المختلفة التي تدخل في المجال المعرفي الواسع ، وتطبيقها في التشريع لأحكام العمل والسلوك ([33]).
2- أهمية اللغة ومكانتها في علم أصول الفقه:
تعد اللغة العربية أهم مكون من مكونات الخطاب الأصولي حسب ما تقرر لدى الأصوليين منذ البداية ، مع الإمام الشافعي في الرسالة ، حيث عرض في مفتتحها لعربية القرآن ، واتساع اللسان العربي ، وقد علل ذلك بقوله : " وإنما بدأت بما وصفت من أن القرآن نزل بلسان العرب دون غيره لأنه لا يعلم من إيضاح جمل علم الكتاب أحد جهل سعة لسان العرب وكثرة وجوهه وجماع معانيه وتفرقها ومن علمه انتفت عنه الشبه التي دخلت على من جهل لسانها " ([34]).
ولعل ما يفيده كلام الشافعي في هذا السياق أن القرآن الكريم هو كلام الله ، ومن ثم فهو خطابه الذي لا يمكن فهمه إلا في الإطار الذي تم فيه ، وهو إطار البيان العربي ، وعلى هذا الأساس كانت أول خطوة في مجال البحث عند الأصوليين ، هو تحديد مفهوم البيان ([35]). وهو عندهم " اسم جامع لمعان مجتمعة الأصول متشعبة الفروع ، فأقل ما في تلك المجتمعة المتشعبة ، أنها بيان لمن خوطب بها ممن نزل القرآن بلسانه ، متقاربة الاستواء عنده ، وإن كان بعضها أشد بيان من بعض، ومختلفة عند من يجهل لسان العرب " ([36]).
وبذلك يتحدد مجال عمل الأصوليين من خلال هذه القاعدة في تحديد علاقة اللفظ بالمعنى في البيان القرآني ، وهو تحديد يهدف إلى ضبط علاقة الأصول بالفروع ، بضابط المعرفة باللغة العربية، يقول الأبياري في شرح البرهان في أصول الفقه للجويني : " وقد بينا أن الاحتياج إلى معرفة اللغة العربية ، إنما احتيج إليه بالإضافة إلى فهم الأحكام ، وقد أمرنا الله تعالى بتنزيل أحكامه على ما نفهم من اللغة العربية ، إلا أن يثبت للشرع تصرف في بعضها ، فيجب التنزيل على ما قرره الشارع من اللغة العربية " ([37]).
وينبغي التنبيه هنا إلى أن الدرس اللغوي عند الأصوليين ، لم يكن مبتغى لذاته بل هو مجرد شرط أو مبدأ يتحصل في علم أو علوم مغايرة لعلم أصول الفقه ، لذا فهو مسلمة من مسلمات الأصوليين ، أو قل مبدأ من مبادئهم ، ومبادئ كل علم هي التصورات والتصديقات المسلمة في ذلك العلم ، وهي غير مبرهنة فيه ، لتوقف مسائل ذلك العلم عليها ، لأن الاستدلال بالشريعة عند الأصوليين ، إنما هو من جهة كونها بلسان العرب ، لا من جهة كونها كلاما فقط ([38]) ، ومن هذه الناحية تتحدد الجهة التي يمكن من خلالها تحديد عملية الفهم ، وهو كون النص المتعامل معه ، عربي اللغة ومن ثم وجبت معرفة " سعة لسان العرب وكثرة وجوهه وجماع معانيه وتفرقها " ([39]) إذ من عادة العربي التوسع في خطابه ، فهو يستعمل العام الظاهر، ويريد به العام الظاهر أو الخصوص ، وقد يتكلم بالشيء يعرفه بالمعنى دون الإيضاح باللفظ كما تعرف الإشارة ([40]).
إن هذه المعرفة في نظر الأصوليين لا تتم إلا بعلوم اللغة العربية ، وذلك " لتوقف معرفة دلالات الأدلة اللفظية ، من الكتاب والسنة ، وأقوال أهل الحل والعقد من الأمة ، على معرفة موضوعاتها لغة ، من جهة الحقيقة والمجاز ، والعموم والخصوص ، والإطلاق والتقييد ، والحذف والإضمار ، والمنطوق والمفهوم ، والاقتضاء والإشارة ، والتنبيه والإيماء ، وغيره مما لا يعرف في غير علم العربية " ([41]).
يظهر من خلال الكلام المتقدم ، على لسان الأصوليين مدى وعيهم بالعلاقة الموجودة بين عملية فهم الكلام الإلهي ومعرفة اللغة العربية ، وهذا الفهم راجع في نظرنا إلى كون الدليل الذي يجب فهمه ، يتقدم إلى المتلقي عبر اللغة العربية ، لذا نظر الأصوليون إلى الألفاظ في علاقتها بمعانيها ، كما بحثوا أوجه العلل والأمارات وتحققوا من المقاصد والمساقات ، الشيء الذي مكنهم من الإسهام بحظ وافر في الأبحاث اللغوية ([42]).
إن الاعتناء باللغة عند الأصوليين وكعامة علماء المسلمين ، نابع من كون الشريعة التي هي موضوع النظر عربية ، ثم إن "معظم الكلام في الأصول يتعلق بالألفاظ والمعاني [ ولذلك] لن يستكمل المرء خلال الاستقلال بالنظر ما لم يكن ريانا من النحو واللغة " ([43]).
إن علم أصول الفقه في حقيقته ليس إلا تعبيرا عن موقف ، من طبيعة اللغة القرآنية ، إن لم نقل إن الأصوليين قد " دققوا في فهم أشياء من كلام العرب لم يصل إليها النحاة ولا اللغويون ... [لأن] كلام العرب متسع جدا والنظر فيه متشعب، فكتب اللغة تضبط الألفاظ ومعانيها الظاهرة دون المعاني الدقيقة التي تحتاج إلى نظر الأصولي واستقراء زائد على استقراء اللغوي" ([44]).
إن وظيفة اللغويين والنحاة والبلاغيين لم تتجاوز التقنين لبعض جوانب اللغة التي من شأنها مساعدة الأصوليين في بحثهم ، وذلك راجع إلى أنهم كانوا مقيدين بأهداف معينة في دراستهم اللغوية، الشيء الذي جعلهم يغفلون عن أشياء كثيرة تتعلق بقضايا المعنى ، مثل دلالة الألفاظ على المعاني، ودلالات الصيغ والهيئات التركيبية على مقاصد المتكلمين وأغراضهم ، أو ما يسمى عند الأصوليين بجهات الدلالة ، فجاءت وظيفة الأصوليين نتيجة لهذا التوجه مخالفة ومكملة في الوقت نفسه لأعمال اللغويين والبلاغيين والنحاة ، وإن كنا نستبعد أن يكون هؤلاء وغيرهم ، وهم يضعون البناء النظري ويؤسسون لعلمهم ، في معزل عما وضع في باقي العلوم الأخرى بسبب النشأة المشتركة المتداخلة بين العلوم إضافة إلى موسوعية ثقافة أصحابها " فالأصولي يستمد من العربية استمدادا كثيرا يحيله لا إلى شارب مرتو فحسب ، بل يرفعه أحيانا أخرى إلى مقام الاجتهاد والابتكار فيها ، ولذلك لم يكن من الغريب في شيء أن يعد الأئمة في الأصول ، أئمة في اللغة وعمدة فيها عند النحويين واللغويين ، وبعبارة أخرى ، يمكن القول إن البحوث اللغوية تحضر في أصول الفقه حضورا قويا وفعالا ، لا يقل في شيء عن حضور الكلام " ([45]).
إن هذا الموقف يدل على دقة نظر الأصوليين في تحديد الأهداف ووضوح النظر ، فالأصوليون كما قلنا سلفا قد لا يهتمون بالمعنى الواضح الذي يستفاد من النص ، لأنه المعنى الأول ، وقد لا يكون مرادا للمشرع ، ثم إن الشريعة ليست مجرد ألفاظ لغوية ، أو جملا وعبارات منظومة ، وإنما هي دلالات ومفاهيم تجسد روح التشريع ومقاصده ، لذا لم تكن نظرة الأصوليين في فهم النصوص واستخلاص الدلالة ، لتقتصر على القواعد اللغوية وحدها بمفهومها الضيق الشائع ، بل كان اهتمامهم متجها نحو الاعتماد على كل ما من شأنه ضبط الدلالة اللغوية سواء تعلق الأمر بالبنيات اللغوية أو السياقية عامة أو خاصة .
وهكذا يكون الأصوليون هم أول من درسوا النصوص وفق هذا التصور فانتهوا فيه إلى تلك المفاهيم حول الدلالة وتغيرها ، وإلى إجراءات واضحة للكشف عنها ، وهي دراسة تصلح منهجا لغويا
لا في فهم الخطاب الشرعي وحده، وإنما في دراسة كافة النصوص الأدبية وغير الأدبية .
ويبقى الحديث عن مقدار قيمة الفكر الأصولي في النظرية اللغوية العربية ، مرتبطا بالجوانب التي أبرزها إمام الحرمين في البرهان ، اعتبارا لما لهذه الجوانب من خصوصيات مميزة للنظرية اللغوية عند الأصوليين ، يقول إمام الحرمين " واعتنوا في فنهم بما أغفله أئمة العربية ، واشتد اعتناؤهم بذكر ما اجتمع فيه إغفال أئمة اللسان ، وظهور مقصد الشرع (منه)، وهذا كالكلام على الأوامر والنواهي والعموم والخصوص وقضايا الاستثناء وما يتصل بهذه الأبواب " ([46]).
يتبين إذن من المنهج الذي وضعه الأصوليون في الكشف عن المعنى واستنباط الحكم الشرعي من النص ، تحديدهم لقوانين ما يريده المتكلم من وراء أي خطاب من المخاطب ، أيريد إفادته مضمون الخطاب فقط ، أم يطلب منه فعل شيء أو تركه على نحو الإلزام ، أو التخيير بأحدهما ، ليستنبطوا من ذلك أحكام الوجوب أو الحرمة أو الإباحة ، وكان من الطبيعي أن يجرهم البحث في دلالة النص على مراد المتكلم ، وهي التي تسمى بالدلالة التصديقية ، إلى البحث في دلالة النص ومكوناته في مرحلة سابقة على التصديق والجزم بالمراد ، وهي مرحلة تصور المعنى المركب قبل أن يكون مرادا أو غير مراد ، وهو ما يسمى بالدلالة التصورية ([47]).
يقول ابن الهمام في شرح التحرير : " وهي أحكام كلية لغوية استخرجها أهل هذا العلم من اللغة العربية لاستقرائهم إياها ، إفرادا وتركيبا لأقسام من العربية ، جعلوها مادة له ، وإن كانت هذه الأحكام في نفس الأمر ليست مدونة قبله " ([48]).
خلاصة القول إن الحديث عن القواعد التي توصل إليها الأصوليون في فهمهم لمدلولات النصوص والتراكيب كان باجتهادهم الخاص ووعيهم بطبيعة الخطاب المتعامل معه ، من حيث هو خطاب يقتضي تفهما وتحريا يستلزم الإبانة عن قصد الشارع ، وتبيين قول الشرع من كل الوجوه ، وهي عملية لا تخرج عن قراءة للخطاب يقوم بها الأصوليون ، إلا أنها قراءة من نوع خاص ، تتعلق بالقرآن لا باعتباره كلاما " المتكلم فيه هو الإله الذي يكون في حاجة إلى التدليل على وجوده وإثبات قدرته ووحدته ،وإنما القرآن بحسبانه خطابا متعلقا بطرف ثان هو المخاطب (بالفتح) أي المكلف " ([49]).
وبهذه الطريقة نكون قد وقفنا على أهمية مكونين رئيسين من مكونات الخطاب الأصولي ويتمثلان في علم الكلام وعلم اللغة لنستجلي بهما الكيفية التي نفذت بها مقدمات هذين العلمين في علم أصول الفقه ثم معرفة آثارهما على عملية الفهم والاستنباط.
وبناء عليه فإن آراء الأصوليين ، لا يمكن أن تفهم على حقيقتها إلا بدراسة كل مكونات علم أصول الفقه فضلا عن معرفة الأصول الفكرية والعقدية التي يتأسس عليها خطابهم ، وهو المنهج الذي نراه صالحا ليس فقط لدراسة آراء الأصوليين ومواقفهم ، وإنما هو المنهج الذي يتعين علينا أن ندرس التراث ، ونفهم كلام الآخرين من خلاله كذلك.
الهوامش:
([1]) الشافعي ، الرسالة : ص.40 ، تحقيق أحمد شاكر مكتبة دار التراث القاهرة ، مصر .
([2]) انظر على سبيل المثال الدراسات الآتية :
- أحمد العلوي : الطبيعة والتمثال : الشركة المغربية للناشرين المتحدين ، مطبعة المعارف، الجديدة ، الرباط ، 1988.
- أحمد المتوكل Reflexions sur la Theorie de la Signification dans la pensée Linguistique Arabe, P. 32-34
- طاهر سليمان حمودة ، دراسة المعنى عند الأصوليين : ص.20 ومابعدها ، الدار الجامعية للطباعة والنشر والتوزيع.
- السيد أحمد عبد الغفار، التصور اللغوي عند الأصوليين : ص.1 ومابعدها ، دار المعرفة الجامعية ، الطبعة الأولى 1401هـ/1981م.
([3]) ابن سينا ، كتاب الشفا ، عن عبد السلام المسدي ، التفكير اللساني في الحضارة العربية : ص.8.
([4]) تاج الدين السبكي ، الإبهاج في شرح المنهاج : 1/7 ، مطبعة التوفيق الأدبية ، القاهرة .
([5]) الجويني ، البرهان في أصول الفقه : 1/83 تحقيق عبد العظيم الديب دار الأنصار ، القاهرة ، الطبعة الثانية 1400هـ.
([6]) الغزالي ، المستصفى : ص.4 ، ضبط محمد عبد السلام عبد الشافي ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، لبنان ، الطبعة الأولى 1413هـ/1993م.
([7]) الآمدي ، الإحكام في أصول الأحكام : 1/21 ، تحقيق سيد الجميلي ، دار الكتاب العربي ، الطبعة الثانية 1406هـ/1968م.
([8]) الغزالي ، المستصفى : ص.6-7
([9]) المستصفى : ص.7.
([10]) عبد القاهر الجرجاني ، أسرار البلاغة : ص.75 تصحيح محمد عبده ، طبعة المنار، القاهرة .
([11]) ابن خلدون ، المقدمة : ص.458 ، دار الجيل بيروت ، مؤسسة خليفة للطباعة .
([12]) علي الجرجاني ، التعريفات ، مادة (كلم) ضبط مجموعة من العلماء ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، لبنان ، الطبعة الأولى 1304هـ/1983م.
([13]) المستصفى : ص.6.
([14]) الجاحظ ، الحيوان : 1/184 ، تحقيق عبد السلام ، هارون ، دار الجيل بيروت ، لبنان ، 1410هـ/1990م.
([15]) الجاحظ الحيوان : 2/660.
([16]) سورة يوسف ، الآية 24.
([17]) الشريف المرتضى : آمالي الشريف المرتضي : 2/125 وما بعدها.
([18]) تنقسم الأصول الاعتزالية إلى أصول خاصة وهي التوحيد والعدل والوعد والوعيد ، والمنزلة بين المنزلتين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أما الأصول العامة للمذهب فهي : العقل ، الشك والتجربة ، التأويل العقلي ، مبدأ التحسين ، والتقبيح العقليين.
([19]) القاضي عبد الجبار ، فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة : ص.183 ، تحقيق فؤاد سيد ، الدار التونسية للنشر، 1393هـ/1994م.
([20]) سعيد بنسعيد العلوي ، الخطاب الأشعري : ص.159 ، دارالمنتخب العربي للدراسات والنشر والتوزيع ، بيروت ، لبنان ، الطبعة الأولى 1412هـ/1992م.
([21]) أحمد أبو زيد ، المنحى الاعتزالي في البيان وإعجاز القرآن : ص.299 ، مكتبة المعارف الرباط ، الطبعة الأولى 1986م.
([22]) الجاحظ ، الحيوان : 1/207.
([23]) القاضي عبد الجبار ، المغني في أبواب التوحيد والعدل : 17/115 تحقيق أمين الخولي القاهرة ، 1963م.
([24]) أبو الحسين البصري ، المعتمد في أصول الفقه : 1/295 تحقيق الشيخ خليل الميس ، دار الكتب العلمية ، بيروت، لبنان ، الطبعة الأولى 1403هـ/1983م.
([25])سعيد بنسعيد الخطاب الأشعري : ص. 162.
([26]) الجويني ، البرهان في أصول الفقه : 1/415 .
([27]) حمادي صمود ، التفكير البلاغي عند العرب أسسه وتطوره إلى القرن 6هـ : ص.41 ، المطبعة الرسمية للجمهورية التونسية 1981م.
([28]) الغزالي ، المستصفى في أصول الفقه : ص.197.
([29]) قطب مصطفى سانو : المتكلمون وأصول الفقه قراءة في جدلية العلاقة بين علمي الأصول والكلام ، مجلة إسلامية المعرفة : ص.50 ، السنة الثالثة ، العدد التاسع ، صفر-ربيع الأول 1418هـ/يونيو1997.
([30]) حاجي خليفة ، كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون : ص.110 ، تصحيح محمد شرف الدين ورفعة بليكة الكيلسي مطبعة البهية ، 1360هـ/1941م.
([31]) الشوكاني ، إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول : 1/48 ، تحقيق شعبان إسماعيل ، القاهرة ، دار الكتبي ، 1992م.
([32]) ابن خلدون ، المقدمة : ص.507.
([33]) سعيد بنسعيد العلوي ، الخطاب الأشعري : ص.19.
([34]) الشافعي، الرسالة : ص.50.
([35]) الجويني، البرهان في أصول الفقه : 1/159 وما بعدها.
([36]) الرسالة : ص.21.
([37]) الأبياري ، شرح البرهان في أصول الفقه لإمام الحرمين : 1/66 مخطوط في خزانة الجامع الكبير مكناس تحت رقم 95.
([38]) الآمدي ، الإحكام في أصول الأحكام : 1/10.
([39]) الشاطبي ، الموافقات : 2/96 ، تحقيق عبد الله دراز ، دار المعرفة ، بيروت ، لبنان.
([40]) الشافعي ، الرسالة : 52.
([41]) الإحكام في أصول الأحكام : 1/9.
([42]) عبد الحميد العلمي ، مسالك الدلالة بين اللغويين والأصوليين : ص.7 ، الطبعة الأولى 1412هـ/2000م ، فاس، المغرب.
([43]) الجويني ، البرهان في أصول الفقه : 1/169.
([44]) تاج الدين السبكي ، الإبهاج في شرح المنهاج : 1/7.
([45]) سعيد بنسعيد العلوي ، الخطاب الأشعري : ص.155.
([46]) الجويني ، البرهان في أصول الفقه : 1/169.
([47]) مصطفى جمال الدين ، البحث النحوي عند الأصوليين : ص.10-11 ، منشورات وزارة الثقافة والإعلام ، العراق، دار الرشيد للنشر بغداد 1400هـ/1980م.
([48]) ابن الهمام ، التقرير والتحبير : 1/65-66 طبع مصطفى البابي الحلبي بمصر 1350هـ.
([49]) سعيد بنسعيد العلوي ، الخطاب الأشعري : ص.146.
الأستاذ: ادريس ميموني
تـقديــم :
إن نظرة بسيطة في واقع اللغة العربية اليوم ، وما آلت إليه في تصور المتكلمين بها، تلزم الباحث للقيام بتشخيص دقيق ووصف امين لجملة من القضايا المرتبطة بواقع اللغة في علاقتها بمتكلميها، وفي ذلك إجابة عن بعض الأسئلة التي أصبحت تقض مضجع الأمة وتهز كيانها ، ومن ضمنها تحديد نوعية العلاقة الموجودة بين اللغة العربية والعلوم الشرعية ، وكذا تحديد علاقة اللغة بالمقاصد بصفة عامة، والمقاصد الشرعية بصفة خاصة ، في وقت سيطرت فيه النزعات الاستشراقية في بلاد العرب، وكثر فيه الحديث عن موقع اللغة العربية في عصر ( العولمة ) ، خصوصا وقد اصبح المتكلم بها، وكذا المتكلم عنها غريبا ترقبه العيون شزرا وتتلقاه الوجوه بالإمتعاض، وليس هذا فقط عند الجاهلين بما تؤول إليه هذه النظرة وما يترتب عنها من مفاسد وأضرار، بل حتى عند المتخصصين الذين يفترض فيهم التنبيه الى خطورة تخلي أمة من الأمم عن لغتها .
فاللغة العربية رمز الحضارة الإسلامية ، وقلبها النابض ووسيلة ابنائها للتدوين والتواصل ، وقد استطاعت بفضل ما لها من خصائص البقاء التي تستمدها من كونها لغة القرآن الكريم وحاملة رسالة الإسلام أن تستوعب كل ما أفرزته الحضارات الأخرى في مجالات الحياة كافة .
إن هذا الارتباط الوثيق بين اللغة والعقيدة، سمة تفردت به الحضارة الإسلامية مما جعل اللغة محل استهداف اعداء هذه الحضارة ، الذين يرمون إلى تقويض العقيدة الإسلامية في النفوس، بهدم اللغة العربية، لاعتبارها سياج هويتها ووعاء ثقافتها وفكرها، فإذا كنا نعلم بأن الله تعالى كرم الإنسان باختياره له من دون مخلوقاته ليسخلفه في الأرض حيث قال تعالى ﴿ ولقد كرمنا بني آدم ﴾(1) و قوله تعالى : ﴿وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة﴾(2) ثم زوده باللغة ليضطلع بمسؤوليات الخلافة حيث قال تعالى ﴿ وعلم آدم الأسماء كلها﴾ (3) ويسر له السبل بأن جعله متكلما بلسان عربي مبين، فشرفه تعالى بجعل لغته لغة كتابه ونبيه المرسل r .فإننا مطالبون بمتابعة البحث في اللغة العربية << حفاظا على هذه المنحة الربانية، ورعاية للمهارات التي تحيط بها،خطابا وتلقيا وكتابة وتعليما واداء للعلم والمعارف>>(4).
وفي هذا الإطار ياتي هذا البحث متتبعا للفكرة المقاصدية من عربية القرآن الكريم من خلال محورين أساسيين يجعلان في الاعتبار التلازم الموجود بين اللغة والعقيدة كمنطلق للتحليل من خلال نموذج الأصوليين ، إذ من المعلوم ، أن العملية التواصلية لابد من أن تتم وفق شروط محددة وقوانين دقيقة يستلزم بعضها البعض الآخر ، فكان لابد من النظر في هذه الشروط وكذا في هذه الأركان وفق ما يقتضيه نظر الأصوليين لها . يقول الغزالي : " إن أصل الأحكام واحد وهو قول الله تعالى "(5)ثم إن القرآن الذي هو قول الله خطاب ، المتكلم فيه هو الشرع ، والمتلقي للخطاب هو المكلف ، ومضمون الخطاب هو الكلام ، والكلام في قسمة الأصولي ، أمر ونهي وخبر واستخبار ، والكلام من حيث هو أحكام ، أمر ونهي ، والحكم هو خطاب الشرع إذا تعلق بأفعال المكلفين .
ولما كان التكليف وفهم التكليف ، والعمل بالتكليف ، قضايا إبلاغه وتواصلية خاصة ، تتم عبر اللغة الطبيعية ، كان الإبلاغ والتواصل الشرعي ينتمي الى جنس أعم هو الإبلاغ والتواصل اللغوي ، وبذلك لابد للعملية التواصلية في نظر الأصوليين من عدة أركان نجملها في المسائل الآتية .
• الركن الأول : الخطاب ـ وهو نفس الحكم .
• الركن الثاني : الحاكم ، وهو المخاطب ، فالحكم خطاب وكلام ، فاعله كل متكلم .
• الركن الثالث : المحكوم عليه ، وهو المكلف او المخاطب ، وشرطه أن يكون عاقلا يفهم الخطاب ، فلا يصح خطاب الجماد والبهيمة، ولا خطاب المجنون والصبي ، لأن التكليف مقتضاه الطاعة وقصد الامتثال ، وشرط القصد العلم بالمقصود والفهم للتكليف
- الركن الرابع : أن يكون بحيث يصح إرادة إيقاعه طاعة وهو اكثر العبادات (6)
فكل اخلال بركن من هذه الأركان يفسد العملية ، ويجعلها كما يقول الشاطبي " في الشرع بمثابة حركات العجماوات والجمادات "(7).
وبالنظر إلى القول أعلاه يتبين أن الأصوليين لم ينظروا للخطاب مجردا عن صاحبه وعن متلقيه، وعن وجوه العلاقة بين صاحب الخطاب والمخاطب ، بل نظروا إليه كمما يتداول طبيعيا ، ومن ثم لزمهم الاعتناء بشروط تحققه طبيعيا ، من وجود المخاطب (الحاكم) والمخاطب (المكلف) ، ومعرفة المكلف لمقاصد المخاطب وكذا وجود قضية أو فعل يكون مناط التكليف .
وتعد هذه القواعد في مجملها حدودا تجنب المستنبط الوقوع في الزلل فيما يتصدى له من وقائع يضع لها حكما أو يطبق عليها حكما ، ومن هنا وجه الأصوليون عنايتهم إلى معرفة قصد المتكلم وتحديد مراده وأفردوا لذلك أبوابا في بحوثهم تناولوا فيه قصد الشارع وقصد المكلف ( وهو قصد الخطاب في عمومه) مما ينبئ بخطورة المسألة ودقتها في تقرير الحكم(8)، فالوقوف عند حرفية النص ، منهج لا يتفق مع طبيعة التشريع ذاته ، لذا كان الإعتناء بالألفاظ والمعاني طرفا أساسيا للحديث في أصول الفقه ، وهو اعتناء لا ينحصر في قضية لغوية واحدة ، ولا في التمييز بين الألفاظ الشرعية واللغوية والعرفية ، أو الحقيقية والمجازية ،إلى غير ذلك من المقدمات التي تتصدر كتب الأصوليين ، بل يتجاوزه ليكون خوصا في ما تؤديه هذه الألفاظ من معان ودلالات ، إفرادا وتركيبا ، وليس معنى هذا الكلام أن الأصوليين ، كما قد يظن الكثير – لا يعطون النص بقطع النظر عن قائله أي دور في الدلالة والمعرفة ، بل إن النص عندهم لا يدل إلا بعد معرفة قائله ومعرفة قصده ، فإذا كانت الدلالة الحقيقية تابعة لقصد المتكلم وإرادته ، فإنه لابد للكشف عن المعنى من معرفة قصد المتكلم بالقرائن المختلفة وذلك لأن دلالات الألفاظ كما يقول الأمدي <<ليست لذواتها بل هي تابعة لقصد المتكلم وإرادته>>(9).
لقد كان هذا أيضا منهج علماء الحديث الذين تحددت مصداقية النص عندهم تبعا لصدق رجال السند من ناحية ، وتبعا لدرجة اتصال السند أو انقطاعه من ناحية أخرى ، وهذا إن دل على شيء إنما يدل على أهمية القضايا اللغوية في الخطاب الأصولي النابع من كون الشريعة التي هي موضوع النظر عربية .
1- مقصدية عربية القرآن الكريم :
شكل نزول القرآن الكريم – بلغة العرب – عاملا مهما في ارتباط العلوم اللغوية بالعلوم الشرعية، فنشأت مترابطة متداخلة يصعب معها الإحاطة بواحدة منها دون الأخرى ، وذلك لكون القرآن الكريم والسنة النبوية اللذين هما مدار التكليف واردان باللغة العربة، ومن ثم وجبت معرفة أساليبها والووقوف على مقصوديهما في الجمل والعبارات لاستنباط حكم صحيح لأن <<معظم الكلام في الأصول يتعلق بالألفاظ والمعاني ، ولن يستكمل المرء خلال الاستقلال بالنظر ما لم يكن ريانا من النحو واللغة>>(10)، يقول ابن السراج موضحا هذا الكلام <<فإن الواجب على كل من عرف أنه مخاطب بالتنزيل ومأمور بفهم كلام الرسول غير معذور في الجهل بمعناهما ولا مسامح في ترك العمل بمقتضاهما ، أن يتقدم فيتعلم اللسان الذي أنزل الله به القرآن حتى يفهم كلام الله وحديث رسول الله r ، إذ لا سبيل لفهمهما دون معرفة الإعراب وتمييز الخطإ من الصواب ، لأن الإعراب إنما وضع للفرق بين المعاني … فلو ذهب الإعراب لاختلطت المعاني ولم يتميز بعضها من بعض ، وتعذر على المخاطب فهم ما أريد منه ، فوجب لذلك فهم هذا العلم إذ هو من أوكد أسباب الفهم فأعرف ذلك ولا تجد غنى عنه>>(11) ، ويزداد هذا الإرتباط توطدا وأهمية في الآيات القرآنية التي تؤكد على عربية القرآن واختيار هذا اللسان لحمله إلى أفطار الارض جميعا، وقد كانت اللغة كأصحابها وبينتها أصلح ما تكون لهذا الحدث الكوني العظيم .
<<وهكذا تبدو سلسلة طويلة من الموافقات المختارة لهذه الرسالة (الإسلام) حيثما وجه الباحث نظره إلى تدبر حكمة الله واختياره>>(12) ، ومصداق قوله تعالى : <<الله أعلم حيث يجعل رسالته>>(13).
فإذا حق لنا أن نقول إن القرآن الكريم جاء مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه مصداقا لقوله تعالى : <<وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه>>(14) فإن لغة التنزيل التي هي جزء منه قد اكتسبت خصائص الهيمنة نفسها ، بالنسبة لسائر اللغات وأوعية التفكير ووسائل التعبير والتغيير والتواصل يقول تعالى: <<نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين >>(15)، وقوله تعالى :<<قرآنا عربيا غير ذي عوج>>(16) وقوله تعالى : <<إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون>>(17) وقوله تعالى<<كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعقلون>>(18).
إن هذه الحروف الأبجدية تلفت النظر العقلي إلى أن آي القرآن مصوغ من هذه الحروف التي يستعملها العرب في معهودهم للخطاب، وما لهذا الإختيار من أبعاد ودلالات تدل على وجود الإمكانية والقدرة للقيام بالمهمة وحمل الأمانة وأداء البيان على طول خطي الزمان والمكان ، مع كل ما يتطلبه ذلك من عناصر للصمود والتحدي ، مصداقا لقوله تعالى:<<الرحمان علم القران خلق الإنسان علمه البيان>>(19)ولذلك اعتبرت اللغة العربية المقوم الأساس في بناء الأمة وقيامها ، لأنها لغة التواصل والاتصال والصياغة لكل الأفكار(20) <<وليس ذلك فحسب ، وإنما هي المدخل الأخطر لبعثرة الأمة ، والعبث بتراثها وتاريخها وذاكرتها ، وعزلها عن تجاربها وماضيها وقيمها وشخصيتها الحضارية، وحاولة تشكيلها من جديد في إطار معطيات لغة أخرى … لذلك كان عزل اللغة والتهوين من شأنها من أخطر مداخل الغزو الفكري والارتهان الثقافي>>(21) . إن الصلة بين ما هو لغوي وما هو شرعي لا يخلو منه مؤلف من مؤلفات القدماء إلا وينبه إليه يقول الثعالبي: <<والعربية خير اللغات والألسنة والإقبال على تفهمها من الديانة ، إذ هي أداة العلم ومقتاح التفقه في الدين وسبب إصلاح المعاش … ولو لم يكن في الإحاطة بخصائصها والوقوف على مجاريها وتصاريفها والتبحر في جلائلها ودقائقها إلا قوة اليقين في معرفة إعجاز القرآن وزيادة البصيرة في إثبات النبوة الذي هو عمدة الإيمان لكفى بها فضلا يحسن أثره ويطيب في الدارين ثمره>>(22).
وهكذا كانت اللغة العربية منذ نشأة البحث فيها أداة أساسية من أدوات الدرس اللغوي والشرعي، فارتكزت عليها جهود علماء المسلمين كالمفسرين والأصوليين والفقهاء وعلماء الكلام فضلا عن علماء اللغة(23) وذلك <<لتوقف معرفة دلالات الأدلة اللفظية من الكتاب والسنة، وأقوال أهل الحل والعقد من الأمة على معرفة موضوعاها لغة ، من جهة الحقيقة والمجاز والعموم والخصوص والحذف والإضمار والمنطوق والمفهوم، والإقتضاء والإشارة والتنبيه والإيماء وغيره ، مما لا يعرف في غير علم العربية>>(24) وتزداد هذه العلاقة وضوحا عند حديث الإمام الشافعي في الرسالة ، وهو بصدد الكلام عن المنهج الذي اختطه ليكون دليلا لتأسيس فهم صحيح للنصوص حيث قال : <<وإنما بدأت بما وضعت من أن القرآن نزل بلسان العرب دون غيره ، لأنه لا يعلم من إيضاح جمل علم الكتاب أحد جهل سعة لسان العرب وكثرة وجوهه وجماع معاينه وتفرقها ، ومن علمه انتفت عنه الشبه التي دخلت على من جهل لسانها>>(25).
يظهر من خلال الرسالة أن الإمام الشافعي كان يربط بين عملية فهم الكلام الإلهي ومعرفة اللغة العربية ، وهو ربط يرجع بالأساس إلى أن الدليل السمعي الذي يجب فهمه ، يتقدم إلى المتلقي عبر اللغة العربية ، ولم يكن الشافعي الوحيد الذي أكد على هذا الربط كشرط في فهم النصوص ، فهذا الجاحظ يقول: <<فللعرب أمثال واشتقاقات وابنية وموضع كلام ، يدل عندهم على معانيهم وإرادتهم، ولتلك الألفاظ مواضع آخر، ولها حينئذ دلالات أخر ، فمن لم يعرفها جهل تأويل الكتاب والسنة والمثل، فإذا نظر في الكلام وفي ضروب من العلم ، وليس هو من أهل هذا الشأن هلك وأهلك>>(26).
لقد برهنت هذه النصوص على دقة نظر الأصوليين في تحديد أهدافهم ووضوح نظرهم لأنهم قوم لا يهتمون فقط بالمعنى الواضح الذي يستفاد من النص لأنه المعنى الأول ، وقد لا يكون مرادا للمشرع ، والشريعة ليست مجرد ألفاظ لغوية أو جملا وعبارات منظومة وإنما هي قبل كل شيء دلالات ومفاهيم تجسد روح التشريع ومقاصده، لذا لم تكن نظرتهم في فهم النصوص واستخلاص الدلالة مقصورة على قواعد اللغة وحدها، بل كان اهتمامهم متجها نحو الإعتماد على كل ما من شأنه ضبط الدلالة اللغوية، سواء تعلق الأمر بالبنيات اللغوية أو السياقية عامة أو خاصة(27).
2) مقصدية الدليل الكلامي :
من المسائل المسلم بها في تراثنا العرب الإسلامي ، اعتبار الدليل الكلامي دليلا قصديا، وهو ما يميز الفكر اللغوي عند العرب والمسلمين بميزة تداولية أصيلة تربط الخطاب بمرسله ومتلقيه، وهي نظرة تجعل من اللغة انجازا فعليا واقعيا، وليست بنية مبتورة عن سياقها التواصلي، وحسبنا نسجل بهذا الخصوص تأكيد علماء العرب والمسلمين على المقصدية في الكلام، لأن اللغة إنما وضعت ليستفاد منها غرضها الذي وضعت له، وهو إقدار المتكلمين على التفاهم، ومعرفة بعضهم حاجات بعض، وقد ناقش الأصوليون هذه المسألة ضمن حديثهم عن الحكمة الداعية إلى وضع اللغة(28) . يقول الآمدي <<لما كان كل واحد لا يستقل بتحصيل معارفه بنفسه وحده دون معين ومساعد له من نوعه… دعت الحاجة إلى نصب دلائل يتوصل بها كل إلى معرفة ما في ضمير الآخر من المعلومات المعينة له في تحقيق غرضه، ولذلك استخدم الإنسان ما يتركب من المقاطع الصوتية، التي خص بها نوع الإنسان، دون سائر أنواع الحيوان، عناية من الله تعالى به… ومن اختلاف تركيبات المقاطع الصوتية، حدثت الدلائل الكلامية والعبارات اللغوية.>>(29).
فاللغة هي الوسيلة الوحيدة لقضاء حوائج البشر والتفاهم بينهم وهي الوسيلة الأكثر طواعية لأنها وجدت استعدادا طبيعيا في الإنسان، الأمر الذي مكنه من استخدامها بشكل تلقائي(30) وقد تبع حديثهم عن هذه الوظيفة وما تستوجبه من مقتضيات ، الحديث عن ضرورة الوضوح في الكلام حتى لا يحتاج إلى تخريج باطن يقول ابن حزم في الرد على أصحاب التأويل الباطن<<وقد علم كل ذي عقل أن اللغات إنما رتبها الله عز وجل ليقع بها البيان، واللغات ليست شيئا غير الألفاظ المركبة على المعاني، المبينة عن مسمياتها … فإذا لم يكن الكلام مبينا عن معاينه فأي شيء يفهم هؤلاء … عن ربهم تعالى، وعن نبيهم r ؟ بل بأي شيء يفهم به بعضهم بعضا>>(31).
وهذا ما تؤكده تعريفاتهم للكلمة والكلام واللغة . فصارت الكلمة هي<<اللفظة الموضوعة للمعنى مفردة، والمراد بالإفراد أنها بمجموعها وضعت لذلك المعنى دفعة واحدة>>(32).
أما الكلام فهو : <<كل لفظ مستقل بنفسه مفيد لمعناه ، وهو الذي يسميه النحويون الجمل>>(33)وهو عند ابن سنان الخفاجي ما <<يتعلق بالمعاني والفوائد بالمواضعة>>(34) وأما اللغة فهي عند ابن جني <<أصوات يعبربها كل قوم عن أغراضهم>>(35) وهي عند ابن سنان الخفاجي<<عبارة عما يتواضع القوم عليه من الكلام>>(36) وهي عند الأسنوي <<عبارة عن الألفاظ الموضوعة للمعاني>>(37). أما عند ابن خلدون فهي <<عبارة المتكلم عن مقصوده ، وتلك العبارة فعل لساني ، فلابد أن تصير ملكة متقررة في العضو الفاعل لها ، وهو اللسان في كل أمة بحسب اصطلاحاتهم>>(38).
إن أهم ما يميز هذه التعريفات، هو الحضور اللازم لمتصور القصد في تنزله ضمن محركات الحدث اللساني الكامن وراء قانون المواضعة، وبذلك يصبح متعلقا بمفهومين ملابسين له في حقله الدلالي وفي اقتضائه التصوري ، وهما مفهوم الإرادة ومفهوم الاعتقاد وينصبان معا في مبدإ النية كمتصور تشريعي، فلا نتحدث عن ضرورة القصد في عملية التخاطب والإبلاغ إلا ونعني قيام هذه الجملة من الشروط الفرعية معه (39) وهذا ما يدل دلالة واضحة على أن حذف اللغة ليس مرتبطا باللغة ذاتها بل بمستوى الإنجاز والاستعمال ، وبذلك تأخذ اللغة بعدها الحقيقي في العملية التواصلية التي لابد فيها من الالتزام بنظام اللغة ، مع استحضار السياق أو المقام التواصلي ، مع حسن التقدير في الإلقاء والتلقي، يقول ابن خلدون <<إعلم أن اللغات كلها ملكات شبيهة بالصناعة، إذ هي ملكات في اللسان للعبارة عن المعاني ، وجودتها وقصورها . بحسب تمام الملكة أو نقصانها، وليس ذلك بالنظر إلى المفردات ، وإنما هو بالنظر إلى التركيب، فإذا حصلت الملكة التامة في تركيب الألفاظ المفردة للتعبير بها عن المعاني المقصودة ومراعاة التأليف الذي يطبق الكلام على مقتضى الحال، بلغ المتكلم حينئذ الغاية من إفادة مقصوده للسامع>>(40) . أما عبد القاهر الجرجاني فقد عد شخص المتكلم شرطا ترتد إليه اللغة في ظاهرة الكلام وإنجاز الخطاب ، مادامت اللغة مجرد رموز وسمات معبرة عن قصد صاحبها يقول: <<وإذ قد ثبت أن الخبر وسائر معاني الكلام، معان ينشئها الإنسان في نفسه، ويصرفها في فكره ويناجي بها قلبه، ويرجع فيها إليه، فاعلم أن الفائدة في العلم بها واقعة من المنشئ لها صادرة عن القاصد إليها>>(41) .
ويرى عبد القاهر تبعا لذلك أن مستويات العملية اللغوية لا تقوم إلا على :
1- القصد إلى الاخبار بمعنى .
2- تعليق معنى كلمة بمعنى كلمة أخرى .
3- اعلام السامع بالخبر عن طريق تعليق الكلمات، لا عن طريق الكلمة المفردة ,.
4- ضرورة وجود ألفاظ ورموزمتواضع عليها، يكون العلم بمعناها مشتركا بين المتكلم والسامع(42) يقول عبد القاهر الجرجاني . <<وليت شعري كيف يتصور قصد منك إلى معنى كلمة دون أن تريد تعليقها بمعنى كلمة أخرى، ومعنى القصد إلى معاني الكلم أن تعلم السامع بها شيئا لا يعلمه، ومعلوم أنك أيها المتكلم لست تقصد أن تعلم السامع معاني الكلم المفردة التي تكلمه بها، فلا تقول (خرج زيد) لتعلمه معنى (خرج) في اللغة ومعنى (زيد) ، كيف ومحال أن تكلمه بألفاظ لا يعرف هو معانيها كما تعرف؟ ولهذا لم يكن الفعل وحده من دون الاسم، والاسم وحده من دون اسم آخر أو فعل كلاما، وكنت لو قلت (خرج) ولم تأت باسم ولا قدرت فيه ضمير الشيء ، أو قلت (زيد) ولم تأت بفعل ولا اسم آخر ولم تضمره في نفسك، كان ذلك وصوتا تصوته سواء>>(43).
3) مقصدية اختصاص الإنسان باللغة.
تعتبر مسلمة اختصاص الإنسان باللغة من الثوابت الموجهة لمسار البحث في تراثنا العربي الإسلامي، فلما كان البعد اللغوي العنصر المحدد في بروز خصوصية الإنسان ضمن الموجودات، فقد تعين النظر في ملابسات ارتباط الإنسان بالكلام من جهتين:
أ- كونية الظاهرة بالنسبة للإنسان .
ب- تهيؤ الإنسان لها (44).
ففيما يخص كونية ظاهرة الكلام في الإنسان فتتجلى في كون الحدث اللساني ملازم للوجود البشري مهما تباعد المكان أو تعاقب الزمان .
وأما تهيؤ الإنسان لها فتتجلى في الاستعداد الخلقي لأداء ما لا تتم الظاهرة اللغوية إلا به ، وهو حدث التصويت والتقطيع، وهو ما يصطلح عليه ابن جني بقابلية النفوس (45) يقول ابن سنان<<لما كانت الطبيعة الإنسانية محتاجة إلى المحاورة لاضطرارها إلى المشاركة والمجاورة، انبعثت إلى اختراع شيء يتوصل به إلى ذلك، ولم يكن أخف من أن يكون فعلا، ولم يكن أخف من أن يكون بالتصويت وخصوصا والصوت لا يثبت ولا يستقر ولا يزدحم، فتكون فيه مع خفته فائدة وجود الإعلام به مع فائدة انصحائه إذ كان مستغنيا عن الدلالة به بعد زوال الحاجة عنه، أو كان يتصور بدلالته بعده، فمالت الطبيعة إلى استعمال الصوت ووفقت من عند الخالق بآلات تقطيع الحروف وتركيبها معا ، ليدل بها على ما في النفس من أثر>>(46) .وإذا كانت تأملات المفكرين العرب قد تحسسوا روابط اللغة بالإنسان على مستوى وجوده الفردي، فإن الفكر اللغوي العربي قد اهتم أيضا بمستوى تحول الظاهرة من الوجود الفردي إلى الوجود الجماعي في المجتمع الإنساني ومن ثم فحصوا مقاصد الكلام وأبعاده باعتباره قيمة جوهرية بين الإنسان ومجتمعه(47) وقد ألح الجاحظ على جعل صيغة الإرتباط بين الإنسان واللغة ارتباطا قارا على محوري النوع والزمن، وهو ما يفسر أن وجود الإنسان متراهن مع تولد الحاجات، وأن سد الحاجات متعذر خارج حدود اللغة، وبذلك جعل الجاحظ <<الحاجة إلى بيان اللسان حاجة دائمة وآكدة وراهنة ثابتة>>(48).
أما ابن جني فقد نبه – وهو بصدد استقراء خاصية الكلام عند الإنسان – إلى التراهن القائم بين وجود الإنسان، وتكامل بعده اللغوي المتمثل في ضرورة سد الحاجة أولا وبالذات حيث يقول:<<وذلك أنهم وزنوا حينئذ أحوالهم وعرفوا مصاير أمورهم ، فعلموا أنهم محتاجون إلى العبارة عن المعاني>>(49).
اما ابن وهب الكاتب وفي سياق بحثه عن علة الحدث اللساني في الوجود، وأسرار الغايات التي يفضي إليها الكلام في الحياة البشرية، فقد أبرز جملة من العناصر التي تؤدي مقاصد الكلام وهي : عموم النفع و كمال النعمة وبلوغ الغاية وحصول المقصد(50).
وعلى هذا النمط من التحليل والاستدلال خلص عبد القاهر إلى نتيجة تجعل من الكلام المحرك لخروج كوامن الانسان وطاقاته من حيز القوة إلى حيز الفعل، إذ لولاه <<لم تكن لتتعدى فوائد العلم عالمه، ولاصح من العاقل أن يفتت عن أزاهير العقل كمائمة، ولتعطلت قوى الخواطر والأفكار عن معانيها، واستوت القضية في موجودها وفانيها… ولكان الإدراك كالذي ينافيه من الأضداد، ولبقيت القلوب مقفلة على ودائعها، والمعاني مسجونة في مواضعها، ولصارت القرائح عن تصرفها معقولة والأذهان عن سلطانها معزولة>>(51).
إن المنهج اللغوي الذي ذكرنا بعض ملامحه عند علماء المسلمين، يعتبر خلاصة تجربة عميقة ظلت خلالها أجيال الباحثين المخلصين ينقبون للتعرف على مقاصد الكلام وفضله وأبعاده، وهم يدركون أن البحث في أسرار اللسان العربي، هو بحث في السليقة اللغوية لهذه الأمة وهو في جوهره<<دراسة لأسرار الإنسان، وتعرفا على أخفى وأغمض ما يختلج في بواطنه من حس وشعور، وأن العناية بالأحوال والكيفيات والتراكيب ليست إلا بحثا في أسرار القلوب والعقول الماثلة في أسرار الكيفيات والتراكيب، وأن المعنى الخفي الغامض والمستكن وراء هذا الحال من أحوال اللفظ العربي، إنما هو تلك الإختلاجة الخفية والغامضة في باطن النفس التي ابدعت هذا التركيب>>(52) وهو ما يحيلنا مباشرة إلى مشكل علاقة الإنسان باللغة في أصل اتصاله بها ثم في مدى انحصاره فيها، وعلى ضوء هذه الثوابت كان فهم الأصوليين للغة على مستوى التنظير، فنزلوها على مقتضى حقيقتها في مستوى التطبيق كما سينضج ذلك من خلال العناصر اللغوية الآتية عند علماء الأصول.
4- حقيقة الخطاب الشرعي:
اذا كان فهم الخطاب الشرعي، هو تحصيل لدلالته الشرعية واستنتاج لها، فإن أول نظر يقوم به الأصولي هو النظر في حقيقة الخطاب ومعناه، والأصولي يجد أن ذلك المعنى هو <<الكلام القائم بذات الله تعالى، وهو صفة قديمة من صفاته>>(53)¯ .
إن مهمة الأصولي لا تقف عند حد تعريف الكلام، واستخراج اقسامه وأنواعه، فهذه من مقدمات عمله، وليست من أهدافه، ففرطه فهم الخطاب لأجل الاستدلال به على الأحكام، ولابد لصحة الاستدلال بالخطاب من معرفة ما يفيده الخطاب. << فالاستدلال بالأدلة يختلف بحسب تجردها عن قرينة، وبحسب اقتران القرائن بها ، والخطاب من الأدلة منه مشترك بين حقيقتين، ومنه غير مشترك، وحقيقة الخطاب قد تكون شرعية، وقد تكون عرفية، والقرائن قد تعدل بالخطاب عن ظاهره، وقد تكون مكملة لظاهره>>(54).
ونكتفي هنا بتعريف أبي الحسين البصري المعتزلي في هذه القضية، ما دام جميع الاصوليين يجعلون قضية التعريف بالخطاب أساسا في نظريتهم اللغوية، إلى الحد الذي جعلهم يرجعون أسباب الخلاف بين الفقهاء في الفروع إلى سببين رئيسيين تعود إليهما سائر الأسباب الأخرى وهما:
أولا : الخلاف في ثبوت النص، وهو خاص بالحديث والرواية.
ثانيا : الخلاف في فهم النص ، بحسب قواعد اللغة وأوضاعها المعروفة، وأن فيه دلالة على هذا الحكم أولا . وهذا يشمل القرآن والحديث في آن معا .
يقول ابن السيد البطليوسي << فإذا رجعنا إلى اختلاف الفقهاء في الأحكام الفقهية وأسبابه … وجدنا أن اختلافهم هذا منه ما يرجع إلى اختلافهم في الأصل الذي بنيت عليه آراؤهم، ومنه ما يرجع إلى اختلافهم في وسائل الفهم والنظر فقط، مع اتحادهم في الأصل الذي رجعوا إليه… فجمع الأحكام المستمدة من القرآن، وإنما يرجع اختلافهم فيها إلى اختلافهم في وسائل فهمه وطرائفه، لا إلى اختلافهم فيه أو في ثبوته، أو في وجوب العمل به>>(55) . وكذلك بالنسبة للأحكام المستمدة من السنة، لا يرجع اختلافهم فيها إلى اختلافهم في السنة من ناحية أنها الأصل الثاني الذي تقوم عليه الأحكام الشرعية، وأنها مبينة للكتاب، وإنما يرجع الإختلاف فيها تارة إلى الإختلاف في فهمها وتارة إلى عدم العلم بها، وتارة إلى عدم وثوق بعضهم بروايتها، على حين وثق بعضهم الآخر بها(56).
وما دمنا نحاول استقصاء أهم الشروط التي وضعها علماء الأصول في نظريتهم اللغوية ، لعملية التواصل الشرعي بصفة خاصة، والتواصل اللغوي بصفة عامة، وما دام قد تحدد لدينا مفهوم أولي للخطاب، نقول إن لهذا التحديد علاقة وطيدة بقضية المعنى، وما لهذه المسألة من آثار في أسباب اختلاف الفقهاء في الفروع، حتى صار منهم المالكي والشافعي والحنبلي والحنفي وغير ذلك، كما كانت سببا في اختلافهم في أصول الإعتقاد، حتى صار منهم الأشعري والمعتزلي والجبري والقدري والمشبه والجهمي، ومن شيعتهم الزيدي والرافضي والاسماعلي وغير ذلك، لقد ادرك علماء الأصول خطورة المعنى، وخطورة قضية استخلاص الدلالة الشرعية من النص الشرعي، فحاولوا الإلمام بأطراف القضية، ومن ثم اتجهت عنايتهم إلى لغة الخطاب، محاولين التعرف على أسرارها في التعبير عن المعاني، حتى يستطيعوا تحديد طريق منضبط يمكن انسحاب الحكم الصحيح عليه في المسائل المعروضة، فانتهوا بعد استقرائهم الدقيق للخطاب إلى تحديد الوجوه التي يرى بها ، وهو ما مكنهم من تحديد أهم الأسباب المؤدية إلى الخلل في فهم مراد الخطاب، والتي لا تخرج في مجملها عن خمسة أسباب في نظر البعض، وثمانية في نظر آخرين، وهي الشروط نفسها التي لا يصح مع عدم معرفتها الاستدلال بالخطاب.
منها : احتمال الاشتراك ، واحتمال النقل بالعرف أو الشرع، واحتمال المجاز، واحتمال الإضمار، واحتمال التخصيص(57).
ونظرا لأهمية الفهم وخطورتها، فإننا وجدنا من القدماء من بلغ بهم الإهتمام، إلى حد تأليف كتب تؤسس لها، ومن هذه الكتب وأهمها (الانصاف في التبيه على المعاني والأسباب التي أوجبت الإختلاف بين المسلمين في آرائهم) لابن السيد البطليوسي الذي يقول: "إن الإختلاف عرض لأهل ملتنا من ثمانية أوجه، كل ضرب من الخلاف متولد منها متفرع عنها: الأول : اشتراك الألفاظ والمعاني . الثاني : الحقيقة والمجاز . الثالث : الإفراد والتركيب . الرابع : الخصوص والعموم . الخامس : الرواية والنقل . السادس : الاجتهاد فيما لا نص فيه . السابع : الناسخ والمنسوخ . الثامن : الإباحة بالتوسع(58). فهذه ثمانية أسباب للاختلاف، وكلها تتعلق بالخطاب، غير أن ما يلاحظ فيها، أنها تنقسم إلى قسمين: الأربعة الأولى منها، عناصر لغوية، والأربعة الأخيرة عناصر غير لغوية، وقد كان لهذه الأسباب آثارها الواضحة في اختلاف الفقهاء، يقول عبد الوهاب السبكي:"الخلاف إما في مسائل مستقلة، أو في فروع مبنية على أصول، والأول ينشأ من أحد أمور . الأول : كون اللفظ مشتركا، وذلك في مسائل، منها (القرء) فهو عند الشافعي رضي الله عنه(الطهر) وعند أبي حنيفة رضي الله عنه (الحيض) ومنها (او) في قوله تعالى(إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض)(59) . قال مالك رضي الله عنه (أو) للتخيير فيفعل السلطان بقاطع الطريق ما يراه من هذه الأمور ، وقال الشافعي وأبو حنيفة للتفصيل والتقسيم، فمن حارب وقتل وأخذ المال، صلب وقتل، ومن قتل ولم يأخذ، قتل، ومن أخذ ولم يقتل ، قطع . الثاني: الحقيقة: كحديث "لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل" . قال الشافعية، لا صيام صحيح، فحقيقة الصيام المفترض عندهم تنتفي بانتفاء نية الليل، وقالت الحنفية: لاصيام كامل، فعدلوا إلى المجاز(60). تعد هذه الأمثلة التي ليست سوى قليل من كثير من الفروع الفقهية المبنية على الإختلاف في تحديد منطلقات فهم الخطاب المتضمن لواحد أو أكثر من هذه الأوجه، من أهم الأسباب الثمانية التي أرجع إليها الأصوليون أن تكون مصدر الخلل في الفهم، ومن أجل هذا الغرض وسعيا من قبل الأصوليين في ضبطهم لهذه العملية، قاموا بوضع سلم تراتبي للقواعد التي قد ترد في الخطاب، مع احتمال إخلالها بالفهم لدى المستنبط، كلما وقع تعارض بينها على الشكل الآتي: إذا وقع التعارض بين الاشتراك والنقل ، فالنقل أولي . إذا وقع التعارض بين الإشتراك والمجاز، فالمجاز أولي . إذا وقع التعارض بين الإشتراك والإضمار ، فالإضمار أولي . إذا وقع التعارض بين الإشتراك والتخصيص، فالتخصيص أولي . إذا وقع التعارض بين النقل والمجاز، فالمجاز أولي . إذا وقع التعارض بين النقل والإضمار ، فالإضمار أولي . إذا وقع التعارض بين النقل والتخصيص ، فالتخصيص أولي . إذا وقع التعارض بين المجاز والاضمار، فهما سواء لأن كل واحد منهما يحتاج إلى قرنية تمنع المخاطب عن فهم الظاهر . إذا وقع التعارض بين المجاز والتخصيص ، فالتخصيص أولي. إذا وقع التعارض بين الإضمار والتخصيص ، فالتخصيص أولي . إذا وقع التعارض بين الإشتراك والنسخ ، فالاشتراك أولي . إذا دار للفظ بين التوطؤ والاشتراك ، فالتواطؤ أولي . إذا وقع التعارض بين أن يكون اللفظ مشتركا بين علمين وبين معنيين ، كان جعله مشتركا بين علمين أولي ، وجعل اللفظ مشتركا بين علمين ومعنى أولى من جعله مشتركا بين معنيين . اللفظ إذا تناول الشيء بجهة الإشتراك وبجهة التواطؤ كان جعله بجهة التواطؤ أولي(61). وتقوم هذه القواعد عند الأصوليين ، على أساس نظرتهم إلى نصوص التشريع ، باعتبارها وحدة متكاملة يبين بعضها بعضا ، أي على أساس أن أحكام التشريع ليست نصوصا لغوية تفهم على أساس من قواعد النحو وأساليب البيان فحسب ، بل هي قبل كل شيء تمثيل إرادة المشرع من التشريع ، ثم إن مقصد المشرع من التشريع ، هو التكليف الذي يجب أن يتجه فيه المكلف إلى أن يكون مقصده في العمل والنتائج متفقا مع مقصد المشرع في التشريع (62)، وقد أشار الى هذه المعنى الإمام الشاطبي بقوله : "إن قصد الشارع من المكلف أن يكون قصده في العمل موافقا لقصد الله في التشريع" (63)، ويقول أيضا " إن القصد غير الشرعي هادم للقصد الشرعي"(64). فالخطاب الشرعي وفق نظر الاصوليين ، هو إسناد قيمة شرعية من مجموعة من القيم (الوجوب والإباحة والخطر والندب والكراهة) إلى فعل المكلف ، فأي استخلاص للدلالة الشرعية من الخطاب يكون ضبطا للقيمة الشرعية التي يسندها النص للفعل الموجه شرعيا ، وتحديدا للعلاقات الدلالية بين القيم الشرعية وصيغها اللغوية . وتظهر قيمة البحث في هذه العناصر في جملة البحوث التي قدمها الأصوليون في مبحث (صيغ التكليف) أو (صيغ الحكم) الذي تناولوا فيه أساسا ، حقيقة قيمتي الوجوب والحظر ، والعلاقات المنطقية بينهما من جهة ، وبينهما وبين صيغها اللغوية من جهة ثانية(65). 5- حقيقة المتكلم والمخاطب : تقوم نظرية الإبلاغ اللغوي عند الأصوليين على أساس قواعد مسطرية، تعد في مجملها مسلمات خطابية لا يصح خطاب بدونها، وقد ناقشنا من جملة هذه الشروط ، معقولية الخطاب، والمبادئ التي يصح معها فهم الخطاب والاستدلال به، وبذلك نكون قد وصلنا في هذا التحليل إلى جزء أساسي لا يقل اهمية عند الأصولي في نظرته للخطاب، وهي الشروط الوجودية المتعلقة بالمتكلم والمخاطب ومقام الخطاب. فالممارسة الكلامية تخضع لقاعدة مسطرية تنتظم بموجبها العلاقة بين المتكلم باعتباره منشئا للخطاب، والمخاطب باعتباره متلقيا للخطاب، أو بعبارة الأصوليين مكلفا بتنفي\ الخطاب. ومن جملة ما يفيده هذا الكلام، أن التواصل الشرعي يعتبر تواصلا لغويا متحققا في مجال الشرع ، وفق شروط وجودية خاصة (66) . فالأصولي متجه بهذا الكلام إلى مخصوصين بالخطاب، وهم المؤتمرون بأوامر الشريعة، والمنتهون بنواهيها، ولهؤلاء في الأصول نعت مخصوص ، فهم "المكلفون" و(التكليف) يتناول (الفعل وأن لا تفعل)(67) وعلى الرغم من اتفاق الأصوليين حول قضية التكليف، إلا أنهم يختلفون حول ماهية التكليف(68). لقد أقام المعتزلة قسمتهم في التكليف على أساس حسن الافعال وقبحها لذاتها، أو للوجوه التي هي عليها، ونصبوا العقل حكما عليها، في حين جعل الأشاعرة ، وعلى رأسهم أمام الحرمين- قسمتهم على أساس تعلق الخطاب بها أمرا ونهيا، فإذا نظرنا في الأفعال من حيث هي مناط التكليف ، وجدناها تنقسم إلى ثلاثة أقسام رئيسية هي : الواجب والمحظور والمباح، ولكل نوع من هذه الأنواع معنى خاص عند كل من المعتزلة والأشاعرة ، وذلك حسب ما تقتضيه المساطر المحددة في الأصول الاعتقادية للمذاهب عند كل منهما . فالواجب عند الأشاعرة ، ما يرد الخطاب السمعي بإيجابه على وجه جازم. والمحظور ما جزم الشرع على تركه . والمباح ما يكون الطرفان فيه على السوية، وبعبارة أخرى" فالحرام هو المقول فيه اتركوه ولا تفعلوه ، والواجب هو المقول فيه افعلوه ولا تتركوه، والمباح هو المقول فيه، ان شئتم فافعلوه وان شئتم فاتركوه، فإن لم يوجد هذا الخطاب من الشارع فلا حكم ، فالعقل لا يحسن ولا يقبح ، ولا يوجب شكر النعم ولا حكم للأفعال قبل ورود الشرع(69). أما المعتزلة وعلى رأسهم القاضي عبد الجبار ، وأبو الحسين البصري فيدهبون إلى أن الواجب، هو الفعل الذي له صفة زائدة على حسنه ويترتب على تركه الذم وهو "ليس لمن قيل له: ( واجب عليه ) الإخلال به على كل حال"(70) والمحظور هو الفعل القبيح الذي يترتب على فعله الذم "والقبح ضربان أحدهما صغير، والآخر كبير ، والصغير هو الذي لا يزيد عقابه وذمه على ثواب فاعله ومدحه ، والكبير هو ما لا يكون لفاعله ثواب أكثر من عقابه ولا مساو له"(71). وأما المباح فهو الفعل الحسن الذي ليست له صفة زائدة على حسنه "ومعنى الإباحة، هو إزالة الحظر والمنع بالزجر والوعد، وغيرهما ممن يتوقع منه المنع"(72). وفي هذا إشارة إلى أن التكليف خاصية من خصائص الخطاب الشرعي دون غيره من الخطابات العادية ، إذ لا يجوز إلا من الله تعالى، أما ما نراه بين الناس من تكليف بعضهم لبعض، فإنماهو على سبيل توخي المصلحة لا على سبيل التكليف . ومن شروط المتكلم (الحاكم) عندهم أن يكون عالما يقبح القبيح وبوجوب الوجوب، ولا يرى المعتزلة مانعا في إطلاق لفظ الوجوب على الله تعالى، لأن أحكام الأفعال لا تختلف في رأيهم بين الشاهد والغائب، كما لم يشترطوا في الأمر أن يكون أمرا بالشيء ناهيا عن ضده، لأن ماهية الخطاب عندهم، الإخبار والاعلام. لقد تسبب هذا القول للمعتزلة في هجوم شديد من قبل خصومهم الأشاعرة الذين لم يشترطوا في المتكلم (الحاكم) إلا أن يكون قادرا لو ابتدأ بالألم لحسن منه(73) ولا شك أن قول المعتزلة بخصوص مامضى يقوم على أساس مسطرة خطابية تقضي بالاعتراف بالنسق اللغوي، ثم إن مقتضى التكليف في الأساس الإعتزالي، هو التعريض للثواب، فهو جوهر ما يؤول إليه الخطاب عندهم ، وما ليس من هذا الباب من الأفعال والتروك، يكون الإنسان مضطرا إليه ، ومن هذا الوجه يختلف جوهر الخطاب الشرعي عن باقي الخطابات غير الشرعية . أما بخصوص الشروط المتعلقة بالمخاطب أو المتلقي للخطاب، فهي لا تختلف كثيرا بين سائر الأصوليين معتزلة كانوا أو أشاعرة ، غير أن المختلف فيه هو يعد هذه الشروط. فإذا اشترطوا العقل، كان له عند المعتزلة عموما وظيفة خاصة، وعند الأشاعرة وظيفة أخرى، وإذا اتفقوا على شرط القدرة ، اختلفوا في طبيعة الأعمال التي تستطيع آداءها . يشترط القاضي عبد الجبار لصحة تكليف المكلف ثلاثة شروط تستهدف تمكينه من فعل ما كلف به ، وهذه الشروط هي : أولا : القدرة على فعل ما كلف به أو تركه ، لأن الفعل إنما يكون بالقدرة بعد الإرادة المتصلة بالدواعي والصوارف، وحتى يكتمل عمل القدرة والتمكين يجب زوال الإلجاء، وهذا ضروري لاثبات تردد كل "الدواعي والصوارف وإثبات الاختيار الذي هو شرط الفعل(74). ثانيا : وجود الآلات التي يحتاج إليها المكلف للفعل، ويعد ه\ا الشرط من كمال القدرة ويتعلق بها، ويعتبر وجود الآلة من باب إزاحة العلة ، كقولك لآخر (ارم إذا وجدت قوسا)(75). ثالثا : أن يكون المكلف عالما بما كلف به ، أو متمكنا من العلم به ، ليستطيع الفعل أو الترك وهذا ما يطلق عليه القاضي عبد الجبار إسم (كمال العقل)، فبكمال العقل يستطيع المكلف تحصيل جملة المعارف، مثل العلم بالأفعال القبيحة والحسنة، وبصفاتها، وبالوجوه التي معها تقع، وكذا العلم بالمكلف وصفاته وحكمته "فجملة العلوم الواجبة على المكلف يتحصل له بعضها بالضرورة، وبعضها الآخر بالنظر والإستدلال، ومن هنا لم يصح تكليف الأطفال ولا الحيوان، لأنه لم يكتمل لديها العقل الصالح بالتكليف"(76) وخلاصة ما ذهبت إليه المعتزلة بخصوص مقتضى التكليف، أن التكليف عقلي وشرعي، والتكليف العقلي سابق على التكليف الشرعي، فالشرع يقوم على العقل، والنظر هو الذي يؤدي إلى معرفة الله وعدله وتوحيده ، ومن ثم نعلم صحة التكاليف الشرعية ويترتب الواجب علينا بفعلها(77). والقول الوجيز عند الأشاعرة "أنه يكلف المتمكن، ويقع التكليف بالممكن، ولا نظر إلى الإستصلاح ونقيضه"(78) فشرط المتلقي للخطاب وفق هذا التعرف ، أن يكون عاقلا فاهما للتكليف ، لأن التكليف خطاب، وخطاب من لا عقل له ولا فهم، محال(79). إن مثل هذه الخلافات ذات الطابع المسطري، كما يقول الدكتور أحمد العلوي، ترجع إلى أساس إطاري صرف" الفرق الاسلامية" فالتي تتصور العلاقة بين الله والانسان قائمة في إطار العقل، تخضع العلاقات القولية إلى العقل، وهذا ما ذهبت إليه المعتزلة، أما الفرق التي تتصور العلاقة بين الله والإنسان قائمة في إطار القدرة، فتخضع تلك العلاقات القولية لمبدإ الإرادة الإلهية، وهي الفرق التي تبدو مساطرها القولية غريبة، لكنها غريبة فقط حينما تنتقل إلى مستوى العلاقة القولية بين البشر، أما في مستوى العلاقة القولية بين الله والإنسان القائمة على الإرادة، فإنها لا تكون غريبة(80). فالقوم الذين ينكرون أن يتعلق الخطاب بالمعدوم على شرط الوجود، كانوا يقصدون عدم جواز الخطاب بدون وجود مخاطب متلق لهذا الخطاب، ثم إن حكم الخطاب الذي هو أمر ونهي، أن يصدق بأمور و منهيات، ولم يكن في الأزل مخاطب معرض لأن يحث على أمر، ويجزر عن آخر، وبذلك استحال في مساطرهم القولية أن يكون المعدوم مأمورا ولو على شرط الوجود ، كما تقرر عند الفرق الأخرى(81). وقد ضربوا لذلك مثالا ، مفاده أن الإنسان إذا أخبره النبي الصادق بأن الله تعالى سيرزقه ولدا، وسيموت قبل ولادته، فإنه ربما قال لبعض الناس إذا أدركت ولدي بالغا فقل له أباك يأمرك بتحصيل العلم، فها هنا قد وجد الأمر ، والمأمور معدوم، حتى إنه لو بقي ذلك الأمر إلى أوان بلوغ ذلك الصبي ، لصار مأمورا بذلك الأمر(82). وإذا كان الأشاعرة ومن سار على نهجهم يخالفون المعتزلة في هذا الترتيب المعرفي، فيقدمون النقل على العقل، ويقدمون التكليف الشرعي على التكليف العقلي، فإن هذا الخلاف وعلى الرغم من أهمية القصوى في الموضوع، فإنه لم يؤد إلى تغاير في نظرة الجميع إلى اللغة التي هي أساس التكليف الشرعي وأداته، مما يجعل أغلب القواعد المسطرية لا تتعدى الطابع الإفتراضي عند الفريقين، وبالخصوص عندما يتعلق الأمر بالخطاب الشرعي واستنباط الأحكام منه . 6- القول الأصولي وقصد المتكلم . يعلق الأصوليون أهمية كبرى على مراد المتكلم، فلا يتحقق التواصل الشرعي إلا إذا تعرف المكلف على قصد المشرع من قوله ، لأن المعقول من قولنا "أنه مخاطب لنا، أنه قد وجه الخطاب نحونا، ولا معنى لذلك إلا أنه قصد إفهامنا"(83). فبالنسبة للخطاب القرآني، يلاحظ أنه لا يمكن الشروع في فهمه إلا إذا تقرر أن المتكلم يريد أن يدل بكلامه القرآني على ما يريد، "فلو أنه تعالى أخفى بعض مراده في بعض ، لكان قد بطل طريق الإستدلال بخطابه على ما يستدل به عليه، والأدلة إذا دلت بطريقة واحدة فالقدح في البعض يقدح في الجميع"(84). يقول ابن تيمية إن "الكلام يدل بقصد المتكلم به وإرادته، وهو يدل على مراده، وهو يدلنا بالكلام على ما أراد، ثم يستدل بإرادته على لوازمها، فإن اللازم مدلول عليه بلزومه"(85) فالكلام قد يحصل من غير قصد فلا يدل، ومع القصد فيدل ويفيد، فكما أن المواضعة لابد منها، فكذلك المقاصد التي بها يصير الكلام مطابقا للمواضعة(86). إن لمعرفة قصد المتكلم عند الأصوليين دخلا كبيرا في توجيه الدلالة، ومحاولة تحديدها مهما اختلفت صورة اللفظ، فالعناية بالدلالة يقصد منها معرفة مراد المتكلم، والهدف من تلك الإرادة ، كما يقول الأصوليون، هو تحقيق أهداف الشريعة الإسلامية، وما ترمي إليه من الحفاظ على الدين والنفس والمال والعقل والنسل(87)، "وإنما اعتبر حال المتكلم لأنه لو تكلم به ولا يعرف المواضعة، أو عرفها ونطق بها على سبيل ما يؤديه الحافظ، أو يحكيه الحاكي، أو يتلقنه المتلقن، أو تكلم به من غير قصد لم يدل، فإذا تكلم به وقصد وجه المواضعة، فلابد من كونه دالا إذا علم من حاله أنه يبين مقاصده، ولا يريد القبيح ولا يفعله، فإذا تكاملت هذه الشروط فلابد من كونه دالا، ومتى لم تتكامل فموضوعه أن لا يدل، وإن كان متى وقع ممن ليس هذا حاله لم يصح أن يستدل به"(88)ومفهوم القصد الذي أورده المعتزلة هنا، على لسان القاضي عبد الجبار ذو أهمية كبرى بالنسبة للإطار الذي ينطلق منه المعتزلة، في محاولة لإعطاء مشروعية دينية لتأويلاتهم للنص القرآني، من حيث إن قصد المتكلم به – الله عز وجل- لا يمكن معرفته إلا بالاستدلال العقلي وحده . وإذا كان المعتزلة قد اكتفوا بالتركيز على قصد المتكلم الذي بدونه لا يقع للكلام دلالة، فإن الأشاعرة – وعلى رأسهم "عبد القاهر الجرجاني" قد جعلوا من هذا المفهوم الأساس في صياغة نظرية للدلالة في الفكر العربي عرفت "بنظرية النظم" وضع فيها قوانين كلية للدلالة على مستوى التركيب، فالتركيب اللغوي لا ينبئ عن مدلوله بمجرد المواضعة ، بل لابد من اعتبار قصد المتكلم، وهي اشارة واضحة إلى ما يحيط عملية الفهم من صعوبة وتعقيد، يقول ابن القيم إن "الدلالة تنقسم إلى حقيقية وإضافية، فالحقيقية تابعة لقصد المتكلم وإرادته، وهذه الدلالة لا تختلف، والإضافية تابعة لفهم السامع وإدراكه، وجودة فكره وقريحته وصفاء ذهنه ومعرفته بالألفاظ ومراتبها، وهذه الدلالة تختلف اختلافا متباينا بحسب تباين السامعين في ذلك "(89). وإذا كان فهم النصوص على مستوى دلالاتها الوضعية الظاهرة أمرا يتفاوت فيه البشر ، فما بالنا بفهم النصوص على مستوى دلالتها الوجودية ، والصعوبة كامنة أولا في فهم الكلام على المستوى الوضعي، كما يقول محي الدين بن عربي بنظرته الصوفية. << إن الإنسان ينطق بالكلام يريد به معنى واحدا مثلا من المعاني التي يتضمنها ذلك الكلام، فإذا فسر بغير مقصود المتكلم من تلك المعاني، فإنما فسر المفسر بعض ما تعطيه قوة اللفظ، وإن كان لم يصب مقصود المتكلم، ألا ترى الصحابة – يقول ابن عربي – كيف شق عليهم قوله تعالى: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم )(90) فأتى به نكرة، فقالوا: وأينا لم يلبس إيمانه بظلم، فهؤلاء الصحابة وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم، ما عرفوا مقصود الحق من الآية، والذي نظروه سائغ في الكلمة غير منكور، فقال لهم النبي e ، ليس الأمر كما ظننتم ، وإنما أراد الله بالظلم هنا، ماقاله لقمان لابنه وهو يعظه (يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ) (91) فقوة الكلمة تعم كل ظلم، وقصد المتكلم إنما هو ظلم مخصوص... ولذلك تتقوى التقاسيم في الكلام بقرائن الأحوال، فإنها المميزة للمعاني المقصودة للمتكلم"(92) فعلى الرغم مما يثيره هذا النص من قضايا تتعلق بنظرة الصوفي للأشياء ، فإن ما يهمنا نحن منه، هو تصويره لعملية الفهم المصاحبة لمجموعة من الصعوبات المرتبطة أولا بالمستنبط أو القارئ، ثانيا بطبيعة النص اللغوي الذي لا يبقى حسب هذه النظرة في حالة ثبات، مادام المدلول في حالة تغير دائم وخلق جديد، وليس هذا الفهم الذي نجده عند ابن عربي وعند الصوفية عموما غريبا، وإنما هو مفهوم ذو صلة وثيقة بعملية الفهم، وإن كان الفارق بين الصوفي وغيره من دارسي النصوص فارق في الدرجة لا في النوع . ومعنى هذا الكلام أن الخطاب الشرعي باعتباره خطابا لغويا يتصف بالانفتاح و "يكون الخطاب مفتوحا إذا احتمل بالنسبة لمخاطب واحد أو مخاطبين وجهين دلاليين مختلفين على الأقل"(93). ويعتبر هذا الإنفتاح مزية لا منقصة كما يقول الجرجاني: "واعلم أنه إذا كان بينا في الشيء أنه لا يحتمل إلا الوجه الذي هو عليه لا يشكل، وحتى لا يحتاج في العلم- بأن ذلك حقه وأنه الصواب- إلى فكر وروية، فلا مزية، وإنما المزيه ويجب الفضل، إذا احتمل في ظاهر الحال غير الوجه الذي جاء عليه وجها آخر"(94) وإذا اعتبرنا المقام محددا أساسا لدلالات الخطاب، بحيث قد يلزم من تغير المقام تغير دلالة الخطاب الواحد وتعديلها على الأقل، فإننا نستطيع تأكيد انفتاح الخطاب الطبيعي بدليل التغير غير النهائي وغير المحدود للمقامات، ويتجلى هذا الإنفتاح على مستوى الألفاظ وعلى مستوى التركيب(95). ولتوضيح عناية الأصوليين بهذا الجانب نورد النص الآتي على لسان ابن القيم "قال الرسول(ص) : (لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان)(96)، إنما كان ذلك لأن الغضب يشوش عليه قلبه وذهنه ، ويمنعه من كمال الفهم ، ويحول بينه وبين استيفاء النظر، يعمي عليه طريق العلم والقصد، فمن قصر النهي على الغضب وحده (وهو المفهوم من ظاهر اللفظ) دون الهم المزعج، والخوف المقلق والجوع والظمإ الشديد ، وشغل القلب المانع من الفهم ، فقد قل فقهه وفهمه ، والتعويل في الحكم على قصد المتكلم، والألفاظ لم تقصد لنفسها وإنما هي مقصودة للمعاني، والتوصل إلى معرفة مراد المتكلم ، ومراده يظهر من عموم لفظه تارة ، ومن عموم المعنى الذي قصده تارة، وقد يكون من المعنى أقوى، وقد يكون من اللفظ أقوى، وقد يتقاربان"(97). فالدليل الكلامي عند الأصوليين ، دليل قصدي، سواء كان لفظا مفردا، أو قولا مركبا، فإذا اجتمع القصد والدلالة القولية أو الفعلية ترتب الحكم، ولهذا ألغى الشارع الألفاظ التي لم يقصد المتكلم معانيها، بل جرت على غير قصد منه، كالنائم ، والناسي والسكران والجاهل والمكره والمخطئ من شدة الفرح أو الغضب أو المرض(98) و<<إلا فنفس استماع اللفظ بدون المعرفة للمتكلم وعادته لا يدل على شيء، إذا كانت دلالتها قصدية إرادية تدل على ما أراد المتكلم أن يدل بها عليه، لا تدل بذاتها فلابد أن يعرف ما يجب أن يريده المتكلم بها، ولذا لا يعلم بالسمع بل بالعقل مع السمع>>(99) .
هكذا كانت تتقلب وجهات نظر الأصوليين حول النص بحثا عن المقاصد، ولعله الباب الذي دخل منه التأويل إلى الدرس الأصولي، فقد اعتمده الأصوليون للتوفيق بين النصوص التي تجمع في ظاهرها بين الإختلاف والتعارض(100) ويظهر ذلك في كتابات الأصوليين منذ الشافعي إلى أن استوى علم أصول الفقه على سوقه ، يقول الشافعي في باب البيان <<فإنما خاطب الله بكتابه العرب بلسانها على ما تعرف من معانيها، وكان مما تعرف من معانيها باتساع لسانها... وأن فطرته أن يخاطب بظاهر يعرف في سياقه أنه يراد به غير ظاهره، فكل هذا موجود علمه في أول الكلام أو وسطه أو آخره، وتبتدئ الشيء من كلامها يبين أول لفظها منه عن آخره، وتبتدئ، الذي يبين آخر لفظها منه عن أوله، وتكلم بالشيء تعرفه بالمعنى دون الإيضاح باللفظ كما تعرف الإشارة، ثم يكون هذا في أعلى كلامها، لانفراد أهل علمها به دون أهل جهالتها"(101). ولابد ونحن نتعقب خصائص النظرية اللغوية الأصولية في عملية الفهم وشروط الإبلاغ اللغوي، من الإشارة إلى أنه وبالإضافة إلى الشروط التي سبق ذكرها، لابد للناظر الممارس لهذه العملية، من التمكن في وسائل فهم الخطاب الشرعي (كتابا وسنة)، ومن هذه الوسائل على الخصوص، اللغة العربية وعلومها لأن لغة القرآن والحديث هي العربية، ثم علوم القرآن وعلوم الحديث، بالإضافة إلى أقوال السلف باعتبارهم أخص القوم بمعرفة (102)الرسول (ص) " أقواله وأفهاله وحركاته وسكناته ومدخله ومخرجه وباطنه وظاهره، وأعلمهم بأصحابه وسيرته وأيامه، وأعظمهم بحثا عن ذلك، وعن نقلته، وأعظمهم تدينا به واتباعا له واقتداء به>>(103) هذا بالإضافة إلى ضرورة استحضار مجموع نصوص الكتاب والسنة لكونها تعبيرا عن إرادة واحدة، وهي إرادة المشرع .
ونظرا لما بين هذه النصوص كذلك من بيان متبادل يقول ابن تيمية إن <<من لا يحفظ القرآن ولا يعرف معاينه، ولايعرف الحديث ولا معاينه، من أين يكون عارفا بالحقائق المأخوذة عن الرسول (ص) >> (104) وهو الرأي نفسه الذي عبر عنه تلميذه ابن القيم حين قال << فالعلم بمراد المتكلم قد يعرف تارة من عموم لفظه، وتارة من عموم علته، والحوالة على الأول أوضح لأرباب الألفاظ وعلى الثاني أوضح لأرباب المعاني والفهم والتدبر،وقد يعرض لكل من الفريقين ما يخل بمعرفة مراد المتكلم، فيعرض لأرباب الألفاظ التقصير بها عن عمومها وهضمها تارة، وتحميلها فوق ما أريد بها تارة، ويعرض لأرباب المعاني فيها نظير ما يعرض لأرباب الألفاظ، فهذه أربع آفات هي منشأ غلط الفريقين>>(105).
وخلاصة القول : إن المنهج اللغوي المعلن عنه من قبل الأصوليين بخصوص عملية الفهم يبقى صالحا، فالشروط المنصوص عليها تبقى أساسية في كل تواصل لغوي ، وفي كل عملية تستهدف الفهم والتأويل، كما تبقى ملزمة عندما يتعلق الأمر بالخطاب الشرعي الذي يكون العلم به مؤسسا على متن العقيدة الإسلامية .
- لذا يبقى الشرط الأول الذي هو الشرط العقدي ضروريا في معالجة النصوص سواء كانت شرعية أو غيرشرعية .
- اما الشرط الثاني فيقتضي ضرورة اعتبار المتن العقدي في كليته ، لأنه تعبير عن إرادة واحدة هي إرادة صاحب النص(106).
هوامش البحث:
(1) سورة الإسراء، الأية :70
(2) سورة البقرة ، الآية29 .
(3) البقرة: الآية 30
(4) فخر الدين قباوة: المهارات اللغوية وعروبة اللسان، ص10 دار الفكر دمشق الطبعة الاولى 1420هـ 1999م.
(5) الغزالي ، المستصفى من علم أصول الفقه ، ص 80 ضبط عبد السلام عبد الشافي دار الكتب العلمية بيروت لبنان الطبعة الأولى 1413 هـ 1993 م .
(6) المستصفى من ص 66 إلى ص 70 .
(7) الشاطبي ، الموافقات في أصول الشريعة 1/149 ، تحقيق عبد الله دراز – المعرفة لبنان بيروت .
(8) السيد أحمد عبد الغفار ، التصور اللغوي عند الأصوليين : ص 113 دار المعرفة الجامعية ، الطبعة الأولى 1401هـ 1981 م .
(9) الأمدي ، الإحكام في أصول الأحكام ، 1/35 ، تحقيق سيد الجميلي ، دار الكتاب العربي الطبعة الثانية 1406هـ – 1986 م.
(10) امام الحرمين : البرهان في أصول الفقه : 1/46 ، تحقيق عبد العظيم الديب دار الأنصار ، القاهرة الطبعة الثانية 1400 هـ .
(11) ابن السراج : تلقيح الألباب على فضائل الإعراب لابن السراج (مخطوط) الورقة 1 .
(12) السيد قطب ، في ظلال القرآن : 5/3144 دار الشروق القاهرة الطبعة العاشرة 1401 هـ ، 1981م.
(13) الأنعام ، الآية 124 .
(14) سورة المائدة ، الآية 48 .
(15) سورة الشعراء ، الآية : 193 – 195 .
(15) سورة الزمر ، الاية 28 .
(16) سورة الزخرف ، الآية : 3 .
(17) سورة، فصلت: الاية: 3.
(18) سورة الرحمان ، الأية:1-4
(19) طالب عبد الرحمان ، نحو تقويم جديد للكتابة العربية ص 18-19 – كتاب الأمة ، ع 69 السنة 19 المحرم 1420هـ
(20) نحو تقويم جديد للكتابة العربية ص 22 .
(21) الثعالبي ، فقه اللغة العربية وسر العربية : ص 2 ، طبعة 1993 دار الكتاب العربي .
(22) ان التفكير اللغوي لا يوجد مستقلا بذاته ومضامنه، بل هو موزع ومقسم بين الدراسات العربية المختلفة ، ومتداخل مع كثير منها مما يجعل من الصعب عزله ودراسته … (محمد الديباجي التفكير اللغوي عند عبد القاهر الجرجاني)،ص : 29 .
(23) الآمدي ، الإحكام في أصول الأحكام : 1/9 .
(24) الشافعي ، الرسالة :51 تحقيق أحمد شاكر مكتبة دار التراث القاهرة، مصر.
(25) علي حسن العماري، الفنون البلاغية في بيان أبي عثمان مجلة البحث العلمي والتراث الإسلامي ع 5 عام 1402 ص 211 عن الفكر الأصولي لعبد الوهاب أبو سليمان ص 24 .
(26) كمثال على تداخل اللغوي بالشرعي قول الجرمي ( أنا منذ ثلاثين سنة أفتي الناس من كتاب سيبويه ، والمراد بذلك أن سيبويه وإن تكلم في النحو فقد نبه في كلامه على مقاصد العرب وأنحاء تصرفاتها في ألفاظها ومعانيها، ولم يقتصر فيه على بيان أن الفاعل مرفوع والمفعول منصوب ونحو ذلك، بل هو يبين في كل باب ما يفيد فيه، حتى إنه احتوى على المعاني والبيان ووجوه تصرفات الألفاظ والمعاني ( الموافقات ، الشاطبي : 4/116 ) .
(28) عبد الحكيم راضي، نظرية اللغة في النقد العربي ص:62 مكتبة الخانجي، مصر 1950 م.
(29) الآمدي ، الإحكام في أصول الإحكام 1/16-17 .
(30) عبد الحكيم راضي، نظرية اللغة في النقد العربي : ص 64 .
(31) ابن حزم ، الإحكام في أصول الأحكام: 3/39، مكتبة الخانجي الطبعة الأولى 1345هـ.
(32) السكاكي، مفتاح العلوم: ص4 ، الطبعة الأولى مصطفى البابي وأولاده بمصر 1356-1937 هـ .
(33) ابن جني ، الخصائص: 1/17 . تحقيق محمد النجار القاهرة مطبعة دار الكتب المصرية 1952 – 1956 .
(34) ابن سنان الخفاجي ، سر الفصاحة : ص33 شرح وتصحيح عبد المتعال الصعيدي مطبعة محمد علي صبيح، القاهرة 1389هـ – 1969م .
(35) الخصائص : 1/33 .
(36) ابن سنان : سر الفصاحة : ص 39 .
(37) السيوطي ، الزهر : 1/8 تحقيق محمد أحمد جواد المولى وآخرون دار احياء الكتب العربية القاهرة.
(38) ابن خلدون، المقدمة ص: 603 دار الجيل بيروت لبنان.
(39) عبد السلام المسدي ، التفكير اللساني في الحضارة العربية: 148 ، الدار العربية للكتاب ليبيا تونس ، 1981م .
(40) ابن خلدون : المقدمة ، 613 ، دار الجيل بيروت .
(41) عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز : 418 محمود شاكر مكتبة الخانجي القاهرة الطبعة الثانية 1410 - هـ 1989 م .
(42) محمد دنياجي ، التفكير اللغوي عند عبد القاهر الجرجاني، قراءة في اللغة ولغة الخطاب: 158.
(43) دلائل الإعجاز : 315 – 316 .
(44) عبد السلام المسدي : التفكير اللساني في الحضارة العربية : ص 48 .
(45) التفكير اللساني في الحضارة العربية : ص 49 .
(46) ابن سنا، كتاب العبارة ص2 نقلا عن عبد الحكيم راضي: نظرية اللغة في النقد العربي ص: 62 .
(47) التفكير اللساني في الحضارة العربية ، ص: 50 .
(48) الجاحظ ، الحيوان : 1/48 تحقيق وشرح عبد السلام هارون مكتبة مصطفى البابي الحلبي ، الطبعة الأولى . 1357 هـ .
(49) ابن جني الخصائص : 2/30 .
(50) ابن وهب الكاتب، البرهان في وجوه البيان: ص66 تحقيق أحمد مطلوب وخديجة الحديثي بغداد الطبعة الأولى 1967م .
(51) عبد القاهرالجرجاني، أسرار البلاغة: ص1 تصحيح محمد عبده طبعة المنار القاهرة.
(52) محمد أبو موسى، دلالات التراكيب، دراسة بلاغية: ص 25، دار التضامن مكتبة وهبة، الطبعة الثانية 1408 هـ – 1978م .
(53) الغزالي ، المستصفى ص 80 .
¯ الكلام عند المعتزلة غير هذا، فهو عندهم من فعل الله وبذلك فهو محدث.
(54) ابو الحسين البصري ، المعتمد في أصول الفقه: 2/342. تحقيق الشيخ خليل اليس دار الكتب العلمية ، بيروت لبنان الطبعة الأولى 1403هـ 1983).
(55) ابن السيد البطليوسي، الانصاف في التنبيه على المعاني والأسباب التي أوجبت الاختلاف بين المسلمين في آرائهم: ص:15 ، تحقيق محمد رضوان الداية، دار الفكر دمشق سورية الطبعة الثالثة : 1407هـ - 1987م .
(56) الانصاف : ص:15 -16 .
(57) الرازي . المحصول في علم أصول الفقه: 1/351. وتاج الدين السبكي ، الابهاج في شرح المنهاج:1/322
(58) ابن السيد البطليوسي ، الانصاف : 33 .
(59) سورة ، المائدة ، الآية : 33 .
(60) الرازي : المحصول في علم أصول الفقه: 1/325 ، تحقيق طه جابر فياض العلواني ، مؤسسة الرسالة ، الطبعة الثانية: 1412ه\ 1992م .
(61) الرازي ، المحصول : 1/352 إلى 362 وتاج الدين السبكي ، الإبهاج 1/322 الى 336 مطبعة التوفيق الأدبية القاهرة .
(62) فتحي الدريني ، المناهج الأصولية : 27 دار الرشيد للطباعة والنشر الطبعة الأولى ، دمشق 1975 م .
(63) الشاطبي ، الموافقات : 2/331 .
(64) الموافقات : 3/237 .
(65) حمو النقاري ، المنهجية الأصولية ، 134 الشركة المغربية ولادة، الدار البيضاء، المغرب الطبعة الاولى،1411ه-1991م
(66) المنهجية الأصولية : 24 .
(67) القاضي عبد الجبار ، المحيط بالتكليف : 12 تحقيق عمر السيد عزمي، الدار المصرية للتأليف والترجمة .
(68) إمام الحرمين ، البرهان في أصول الفقه : 1/101 وما بعدها .
(69) الغزالي ، المستصفى : 54 .
(70) أبو الحسين البصري ، المعتمد في أصول الفقه 1/339 .
(71) المعتمد في أصول الفقه 1/335 والقاضي عبد الجبار ، المغني في أبواب التوحيد والعدل : 6/73 .
(72) المعتمد في أصول الفقه : 1/337 .
(73) الشهرستاني : نهاية الإقدام في علم الكلام : 300 وما بعدها ، تصحيح الفرد فيوم مكتبة المثنى ببغداد .
(74) القاضي عبد الجبار، المغني في أبواب التوحيد والعدل: 2/283 تحقيق إبراهيم الأبياري .
(75) المغني في أبواب التوحيد والعدل : 2/257 .
(76) القاضي عبد الجبار ، متشابه القرآن : ص 95 .
(77) عبد الكريم عثمان ، نظرية التكليف : 23 .
(78) امام الحرمين ، البرهان في أصول الفقه: 1/105 .
(79) الآمدي ، الإحكام في أصول الأحكام 1/215 .
(1) أحمد العلوي ، الطبيعة والتمثال: ص 212 الشركة المغربية للناشرين المتحدين مطبعة المعارف الجديدة ، الرباط 1988 م .
(80) الماكلاتي : لباب العقول : ص 276 ، تحقيق فوقية حسين محمود ، دار الأنصاري القاهرة ، مصر الطبعة الأولى 1977م .
(81) الرازي ، محصل أفكار المتقمين : ص 133 ، الطبعة الحسينية المصرية ، الطبعة الأولى .
(82) ابو الحسين البصري ، المعتمد في أصول الفقه : 1/316 .
(83) أحمد العلوي ، الطبيعة والتمثال : 210 .
(84) ابن تيمية ، كتاب النبوات : ص 266 – 267 .
(85) القاضي عبد الجبار ، المغني في أبواب التوحيد والعدل : 15/162 .
(86) الشاطبي ، الموافقات : 2/8 وما بعدها .
(87) المغني في أبواب التوحيد والعدل: 16/347 ، تحقيق أمين الخولي، القاهرة : 1965م .
(88) ابن القيم الجوزية ، اعلام الموقعين : 1/305 ، ادارة الطباعة المنيرية القاهرة .
(90) سورة الانعام ، الآية : 82 .
(91) سورة لقمان ، الآية : 12 .
(92) محي الدين بن عربي ، الفتوحات المكية 1/135 – 136 .
(93) حمو النقاري ، المنهجية الأصولية : 28 .
(94) عبد القاهر الجرجاني ، دلائل الإعجاز : 221 .
(95) حمو النقاري ، المنهجية الأصولية : 29 .
(96) النسائي 8/209 ( باب ذكر ما ينبغي للحاكم أن يتجنبه) .
(97) ابن القيم الجوزية ، اعلام الموقعين : 1/188 .
(98) اعلام الموقعين 3/137 .
(99) ابن تيمية ، مجموعة فتاوي ابن تيمية : 20/496 .
(100) السيد أحمد عبد الغفار ، التصور اللغوي عند الأصوليين : 117 .
(101) االشافعي ، الرسالة : 52 .
(102) حمو النقاري ، المنهجية الأصولية : ص 97 .
(103) ابن تيمية : نقض المنطق : 71 ، تحقيق محمد حمزة وسليمان الصنيع الطبعة الأولى 1370 هـ .
(104نقض المنطق : 71 .
(105) ابن القيم ، ، اعلام الموق 1/219 .عين : 1/219 .
(106) حمو النقاري ، المنهجية الأصولية : 98 .
الأستاذ: إدريس ميموني*
تقديم:
من الحقائق المسلم بها في الدراسات اللغوية عند العرب أنها ارتبطت بالنص القرآني، فكان الاهتمام اللغوي يستهدف أساسا خدمة القرآن، حيث ظلت هذه الغاية المحدد الأساس لمسار المنهج اللغوي الذي جمع بين دراسة اللغة والقرآن، فتأثرت العلوم اللغوية بالعلوم الشرعية، كالفقه والحديث والتفسير والأصول والقراءات القرآنية. فلا نكاد نجد كتابا من الكتب اللغوية إلا وهو متأثر بهذه العلوم، كما لا نجد كتابا من كتب العلوم الشرعية، إلا وهو يشير إلى ما ينبغي أن يتوفر في طالب العلوم الشرعية، من امتلاك لأدوات الدرس اللغوي، المتمثل في علوم اللغة، وعلى رأسها النحو العربي، وخير شاهد على هذا الترابط جملة الكتب اللغوية التي ألفها اللغويون في مختلف القرون، ومن ضمنه الصاحبي في فقه اللغة لابن فارس، والخصائص لابن جني، وفقه اللغة وسر العربية للثعالبي، والاقتراح في علم أصول النحو، والأشباه والنظائر، والمزهر، وكلها للسيوطي، والإنصاف في مسائل الخلاف لابن الأنباري..الخ. فعناوين هذه الكتب دالة على مابين الدرس اللغوي والشرعي من تأثر كبير، تجلى في المصطلحات التي استعملها اللغويون في كتبهم من مثل الأصول، والفقه، والخلاف، والسنن، والأشباه والنظائر، وغيرها كثير جدا. وهي مصطلحات لعلوم شرعية نفذت مقدماتها في علوم اللغة، ونحن في هذه الدراسة سنتناول مبحثا لغويا له كبير صلة بعلمين شرعيين هما: علم الحديث وأصول الفقه، وكلاهما ألف فيه السيوطي مصنفا مازال يشهد بهاته العلاقة إلى يومنا هذا. أما الشق الأول من هذه الدراسة، فتتناول الرواية اللغوية، وأما الشق الثاني فله علاقة بأصل السماع وهو أحد أصول النحو المتضمن لمصادر اللغة العربية.
I - الرواية اللغوية:
1 الرواية لغة واصطلاحا:
الرواية بمدلولها العلمي الاصطلاحي، طور لغوي متأخر سبقه طور ذو دلالة مادية حسية، كانت في بدء أمرها محصورة فيما يتصل بالماء من إناء يحمل فيه كالمزادة، ومن حيوان يحمل عليه كالبعير، ومن إنسان يحمله مستقيا أو متعهدا دابة السقاية. يقول لبيد:
فتولهم فاترا مشيهم ٭٭٭ كروايا([1]) الطبع همت بالوحل
ثم أصبحت الرواية تطلق على مطلق الحمل، والرواية على الدابة التي تتخذ لحمل المتاع إطلاقا، ثم صارت الروايا تدل على السادة لأنهم يقومون بأعباء غيرهم ويحملون عنهم أثقالهم. قال رجل من بني تميم وقد ذكر قوما أغاروا عليهم "لقيناهم فقتلنا الروايا وأبحنا الزوايا" أي قتلنا السادة وأبحنا البيوت ([2])، ثم بعد ذلك دخلت هذه اللفظة ميدان النقل الشفهي فأطلقت على أخذ الشعر والحديث والقراءات واللغة لعلاقة النقل في كل([3]). يقول الأزهري " روى فلان حديثا أو شعرا يرويه رواية فهو راو، فإذا كثرت روايته قيل هو راوية" ([4]) ويقول ابن منظور في اللسان: " رويته الشعر تروية أي حملته على روايته وأرويته أيضا، وتقول أنشد القصيدة...ولا تقل اروها إلا أن تأمره بروايتها أي باستظهارها"([5]) ونقل عن الجوهري قوله "رويت الحديث والشعر فأنا راو في الماء والشعر، من قوم رواة"([6]).
أما الرواية في الاصطلاح فهي"جمع المادة اللغوية من الناطقين العرب"([7]) وهو ما عبر عنه بعضهم بأنه عملية جمع المادة اللغوية من أفواه العرب الفصحاء بالذهاب إليهم في بواديهم، أو بلقائهم في الحواضر ثم نقل ذلك إلى غيرهم.
2- السماع:
السماع في اللغة هو اسم ما استلذت الأذن من صوت حسن، وهو أيضا ما سمعت به فشاع وتكلم الناس به([8]).
وفي الاصطلاح هو "ما ثبت في كلام من يوثق بفصاحته، فشمل كلام الله تعالى وهو القرآن، وكلام نبيهr وكلام العرب قبل بعثته، وفي زمنه وبعده إلى أن فسدت الألسنة بكثرة المولدين نظما ونثرا عن مسلم أو كافر، فهذه ثلاثة أنواع لابد في كل منها من الثبوت" ([9]).
وهذا الكلام فيه تفصيل نقف منه على أن الكلام العربي الفصيح هو المادة التي هي مناط السماع الذي يعتد به.
وبهذا يتضح أن السماع والرواية في الاصطلاح يدوران حول معنى واحد تقريبا، على الرغم من أن بعض الباحثين المحدثين يجعلون السماع في الاصطلاح مقصورا على الأخذ المباشر للمادة اللغوية من الناطقين بها، أما ما نقل عنهم بطريق غير مباشر فهو رواية. ([10]) .
وهكذا فإن كلا من الرواية والسماع، إنما هو نقل المادة اللغوية كما استعملها العرب الناطقون بها خدمة للغة والبحث اللغوي، سواء كان ذلك بمشافهة العرب أنفسهم، أم بالأخذ عمن سمع عنهم، والسماع طريق مهم اعتمد عليه اللغويون والنحاة القدماء من بصريين وكوفيين، وجعلوه أساسا استندوا إليه في تقعيد القواعد.
ولقد كان السماع الخطوة الأولى التي سبقت القياس، فقد اتفق العلماء والباحثون في مجال اللغة والنحو على أن السماع أصل والقياس قائم عليه، فبينهما علاقة قوية ورابطة وثيقة، فالأول أمد الآخر بالمادة اللغوية التي تمثل أحد أركانه الأساسية.
وقد عرف العلماء السماع بمفهومه العلمي في القرن الثاني الهجري، حين أخذ بعضهم يوسع في القياس على أساس من السماع.
والسماع في مجال اللغة وثيق الصلة بالرواية الأدبية، والنص القرآني وقراءاته، وكذا الحديث الشريف باعتبارها جميعا نصوصا يعتمد في نقلها على السماع والرواية اللذين عرفا بمعناهما العلمي في مجال اللغة- في مرحلة تالية للرواية في مظاهرها الأخرى. فالرواية الأدبية ترجع في نشأتها إلى العصر الجاهلي حيث كان الشعر محور السماع عند العرب، وكان أسلوبهم في روايته هو الاعتماد على المشافهة، وبذلك يتضح، أنه لا يوجد في العصر الجاهلي وأول العصر الإسلامي، من مظاهر الرواية غير الرواية الأدبية.
والرواية الأدبية لا تهمنا إلا من زاويتين:
أولها: تتمثل في أن رواة الأدب كانوا مقصدا من مقاصد النحاة واللغويين يسمعون منهم النصوص التي جعلوها أساسا لتقعيد قواعدهم.
وثانيها: أن المتجهين للسماع في اللغة أنفسهم نشأوا رواة للشعر في أول الأمر، حتى إننا نجد من الباحثين المحدثين من يقول بأن روايته كانت تمثل الجذور الأولى للرواية اللغوية. وقد بدا طلب العلم بصفة عامة في القرن الأول الهجري مرتبطا بالنص القرآني والقراءات والحديث الشريف، معتمدا على الرحلة قصد السماع الذي تعد المشافهة وسيلته الرئيسية كما هو معروف. فالصحابي الجليل أبو الدرداء وهو احد الذين جمعوا القرآن حفظا على عهد النبي r يقول "لو أعيتني آية من كتاب الله فلم أجد أحدا يفتحها علي إلا رجل ببرك الغماد لرحلت إليه". ولهذا نجد أن أوائل رواة اللغة جلهم من القراء، من أمثال يحيى بن يعمر (تـ 129هـ)، وعبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي (تـ 117هـ)، وعيسى بن عمر (تـ 149هـ) وأبي عمرو بن العلاء (تـ 154هـ)، ولما كان هذا شأنهم كان السماع في اللغة معتمدا في أول نشأته عليهم.
وكذلك كان الشأن بالنسبة لرواية الحديث الشريف التي بذلت منذ عهد الرسول r يقول عبد الله بن أبي مسعود "سمعت رسول الله ئ يقول : نضر الله وجه امرأ سمع منا شيئا فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع"([11]) .
ونظرا لهذا الارتباط الوثيق، وكذا السبق في مجال أخذ القراءات والحديث، يذكر ابن الأنباري أن اللغويين اشترطوا في نقل اللغة بعض ما يشترط في نقل الحديث، وهو تأثر بأسلوب المحدثين، يدل عليه ما يسوقه هو نفسه، من أن النقل في اللغة ينقسم إلى متواتر وآحاد، ويعني بالمتواتر لغة القرآن، وما تواتر من السنة، وكلام العرب. وبالآحاد، ما تفرد بنقله بعض أهل اللغة وأهل الحديث.
وبذلك تكون رواية الأنساب والآداب والقراءات والحديث الشريف، جميعها أسبق من السماع في مجال اللغة، إذ لم يبدأ في اللغة بالمعنى الاصطلاحي، إلا في القرن الثاني الهجري، وإن كنا لا نستطيع على وجه الدقة معرفة الوقت الذي بدأ فيه هذا الاتجاه.
3- بواعث التدوين:
كان للإسلام باعتباره دينا جديدا أكبر الأثر على الحياة العلمية إجمالا واللغوية خاصة. فبنزول القرآن، انتقل المجتمع العربي من نظام قبلي إلى نظام إمبراطوري يضم أجناسا وأمما كثيرة ومتعددة، كان من أسباب توحيدها بالإضافة إلى وحدة العقيدة وحدة اللغة، التي نزل بها الدين الإسلامي، فحصل على إثر هذا الاختلاط تعلم العجم للعربية، وتعلم العرب للعجمية، فبدا اللحن والخطأ يشيعان في اللغة العربية، وخصوصا أواخر الدولة الأموية وأوائل الدولة العباسية، وقد تعرضت العربية في هذه المرحلة بالذات لنوعين من الفساد، فساد في اللفظ يتمثل في الخطأ في النطق، وفي تركيب الجمل، وهو ما نتج عنه ظهور النحو.
وفساد في المعنى باستعمال الألفاظ في غير مجالها المعنوي، وهو ما نتج عنه ظهور المعجم. يقول عبده الراجحي: "لقد فصل كثير من الباحثين في تاريخ الدرس اللغوي عند العرب، وبخاصة عند تعرضهم لتاريخ النحو، وهم يرجعون نشأة هذا الدرس إلى انتشار اللحن نتيجة دخول شعوب غير عربية في الإسلام...وذلك صواب لاشك فيه لكنه صواب غير كامل، أو هو صواب لم يلتمس الأهم في نشأة هذا الدرس وتطوره. نعم لقد كان حفظ القرآن من اللحن سببا من الأسباب لكنه لم يكن السبب الأول، ولم يكن الغاية من الدراسة، والسبب الحقيقي - فيما نعتقد- لنشأة علوم اللغة عند العرب إنما هو السعي لفهم النص القرآني باعتباره مناط الأحكام التي تنتظم الحياة" ([12]).
وبالنظر إلى ما أشير إليه في النص أعلاه، يمكن تلخيص أهم بواعث وأسباب تدوين اللغة في ما يلي:
1- صيانة القرآن الكريم من الأخطاء المتعلقة بالنطق أو الفهم.
2- حفظ اللغة العربية من اللحن أو العجمة أو الفساد ووقايتها من الألفاظ الدخيلة على متنها.
3- الخوف على اللغة العربية من الانقراض بانقراض الحفاظ لها، والضياع بموت علمائها ورواتها.
4- المحافظة على اللغة باعتبارها جزء من العقيدة الإسلامية (لغة القرآن والحديث) قال تعالى﴿ يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك، وإن لم تفعل فما بلغت رسالاته﴾([13]). والجدير بالذكر أن العرب في إطار حركتهم لجمع اللغة، وضعوا مجموعة من الشروط التي ينبغي توفرها في عملية النقل، مرتكزين في عملهم على معيار الفصاحة والنقاء، وهو معيار تنطوي تحته مجموعة من المعايير والشروط المتعلقة بالفرد وكذا باللفظ.
أ- الشروط المتعلقة بالفرد:
- السماع: وهو الأخذ المباشر للمادة اللغوية عن الناطقين بها.
- ثبوت أقوالهم عن العرب بسند صحيح يوجب العمل به.
- عدالة الناقلين: فيشترط في ناقل اللغة الأمانة والعدالة والصدق والثقة، بمعنى أن ينقل اللغة كما سمعها دون أن يزيد فيها أو ينقص منها، ودون أن يؤثر فيها أو يخضعها لميولاته وأهوائه ومصالحه الخاصة، يقول ابن الأنبا ري: "يشترط أن يكون ناقل اللغة عدلا رجلا كان أو امرأة، حرا كان أو عبدا كما يشترط في نقل الحديث، لأن به معرفة تفسيره وتأويله، فاشترط في نقلها ما اشترط في نقله، وإن لم تكن في الفضيلة من شكله، فإن كان ناقل اللغة فاسقا لم يقبل نقله" ([14]) .
أن يكون الأخذ عن الأعراب الموغلين في البداوة، وغياهب الصحراء الذين لم يختلطوا بغيرهم من الأمم والأجناس الأخرى، ولم تكن لهم صلة بغير العرب، يقول مصطفى صادق الرافعي: "فرحلوا إلى البادية وهي مصدر اللغة، يطلبون جفاة الأعراب وأهل الطبائع المتوقعة، ويأخذون عن القبائل التي بعدت عن أطراف الجزيرة، وبقيت سرة البادية أو فاضت حواليها"([15]). ويقول ابن خلدون: "الصريح من النسب إنما يكون للمتوحشين في القفر من العرب ومن في معناهم، وذلك لما اختصوا من نكد العيش وشظف الأحوال...فلا ينزع إليهم أحد من الأمم...فيؤمن عليهم لأجل ذلك من اختلاط أنسابهم وفسادها ولا تزال بينهم محفوظة صريحة، واعتبر ذلك في مضر وقريش وكنانة وثقيف وبني أسد وهذيل، ومن جاورهم من خزاعة، لما كانوا أهل شظف ومواطن غير ذات زرع ولا ضرع وبعدوا من أرياف الشام والعراق...وأما العرب الذين كانوا بالتلول، وفي معادن من الخصب للمراعي والعيش من حمير وكهلان مثل لخم وجذام وغسان وطيء وقضاعة وأياد فاختلطت أنسابهم وتداخلت شعوبهم" ([16]) .
ويعتبر الفارابي من أوائل العلماء الذين ذكروا أهم القبائل التي أخذت عنها اللغة العربية في قوله: "والذين عنهم نقلت اللغة العربية وبهم اقتدي، وعنهم أخذ اللسان العربي من بين قبائل العرب هم: قيس وتميم وأسد، فإن هؤلاء هم الذين عنهم أكثر ما أخذ ومعظمه، وعليهم اتكل في الغريب وفي الإعراب والتصريف، ثم هذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين، ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم. وبالجملة فإنه لم يؤخذ عن حضري قط، ولا عن سكان البراري ممن كان يسكن أطراف بلادهم المجاورة لسائر الأمم الذين حولهم"([17]) .
ب- الشروط المتعلقة باللفظ:
إن أهم شرط خص به جانب اللفظ، هو كثرة الاستعمال، وفيه مقاييس فصل السيوطي القول فيها في المزهر كما يلي:
* خلو اللفظ من التنافر، بأن تكون الحروف المكونة له متباعدة في المخارج، وكلما حصل تقارب في المخارج كلما حصل هناك تنافر، كما في لفظتي العهخع و مستشزرات.
* خلو اللفظ من الغرابة، وهي غموض اللفظ الناتج عن قلة استعماله، ومن أمثلته قول عيسى بن عمر النحوي لما سقط من فوق حماره واجتمع الناس حوله " مالكم تكأكأتم علي كتأكؤكم على ذي جنة افرنقعوا عني".
* مخالفة القياس، فاللفظ إذا خالف القياس وقل استعماله لم يكن فصيحا، وكان مردودا. أما إذا كثر استماله وإن لم يكن قياسيا كان مقبولا، وذلك نحو كلمة (سرر) فالأصل أن يجمع (سرير) على وزن أفعلة أو فعلان، لا على وزن فعل إلا أن وروده في القرآن وكثرة تردده على الألسنة وتداوله بين المسلمين أكسبه الفصاحة والسلامة.
وهذا المعيار الذي كرر القول فيه ابن جني - الأخذ بالأكثر والأشهر- صرح به كثير ممن قبله منهم أبو عمر بن العلاء حين سأله أحدهم فقال: "أخبرني عما وضعت مما سميته عربية، أيدخل فيه كلام العرب كله؟ فقال لا. فقلت كيف فيما خالفتك فيه العرب وهم حجة؟ فقال أعمل على الأكثر وأسمي ما خالفتني لغات"([18]) .
والنتيجة هي أنه داخل الإطار العام لكلام العرب، أي الفصيح ترتب الاستعمالات في سلم متفاوت الدرجات، فأعلاها الأفصح وهو الأكثر والأشهر، وأدناها الذي يحفظ ولا يعمل به، وخارج هذا السلم يوضع الخطأ واللحن.
ولابن هشام نص مشهور في ترتيب درجات سلم الفصاحة القائم على معياري القلة والكثرة يقول: "اعلم أنهم يستعملون غالبا وكثيرا ونادرا وقليلا ومطردا، فالمطرد لا يختلف، والغالب أكثر الأشياء ولكنه يتخلف، والكثير دونه، والقليل دون الكثير، والنادر اقل من القليل..." ([19]) فكلام العرب ([20])يتدرج في خمسة مراتب على النحو الآتي:
1 مطرد / 2 غالب / 3 كثير / 4 قليل / 5 نادر.
II - مصادر تدوين اللغة العربية:
يمكن حصر المصادر التي استقى منها اللغويون العرب مادتهم فيما يلي:
1- القرآن الكريم.
2- القراءات القرآنية.
3- الحديث النبوي الشريف.
4- كلام العرب شعرا ونثرا.
وتندرج هذه المصادر تحت أصل السماع، يقول السيوطي«وأعني به ما ثبت في كلام من يوثق بفصاحته، فشمل كلام الله تعالى وهو القرآن، وكلام نبيه r، وكلام العرب قبل بعثته وفي زمنه وبعده، إلى أن فسدت الألسنة بكثرة المولدين نظما ونثرا، عن مسلم أو كافر، فهذه ثلاثة أنواع لابد في كل منها من الثبوت»([21]) .
1- القرآن الكريم:
يعتبر القرآن الكريم في أعلى درجات الفصاحة، وخير ممثل للغة العربية المدونة، لذلك وقف منه اللغويون موقفا موحدا فاستشهدوا به، وقبلوا كل ما جاء فيه، ولا يعرف أحد من اللغويين تعرض لشيء مما ثبت في المصحف بالنقد والتخطئة، يقول الراغب الأصفهاني: «ألفاظ القرآن الكريم هي لب كلام العرب وزبدته وواسطته وكرائمه، وعليها اعتماد الفقهاء والحكماء ..وإليها مفزع حذاق الشعراء والبلغاء..وما عداها كالقشور والنوى بالإضافة إلى أطايب الثمر».([22])
والمراد بالقرآن، النص القرآني المدون في المصحف، وهو غير القراءات القرآنية، يقول الزركشي:«القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان، فالقرآن هو الوحي المنزل على محمد r للبيان والإعجاز. والقراءات هي اختلاف ألفاظ الوحي المذكور في كتابة الحروف، أو كيفيتها من تخفيف وتثقيل وغيرهما»([23]). ويقول الآمدي: «أما حقيقة الكتاب فقد قيل فيه، هو ما نقل إلينا بين دفتي المصحف بالأحرف السبعة المشهورة نقلا وعقلا»([24]).
ولعل مصدر إجماع اللغويين حول هذا النص، يرجع إلى ما أحيط به نص القرآن الكريم منذ بداية نزوله، من عناية شديدة منقطعة النظير من قبل الصحابة، حيث تجردوا لحفظه وإتقانه، فتلقوه عن النبي r حرفا حرفا، لم يهملوا منه حركة ولا سكونان ولا إثباتا ولا حذفا، ولا دخل عليهم شيء منه شك ولا وهم، ولقد تلقاه أصحاب رسول اللهr منه على تلك الرعاية والأمانة، حتى كان يستمع إليهم وهم يقرؤون عليه. فعن ابن مسعود قال قال رسول الله: «اقرأ علي، ففتحت سورة النساء فلما بلغت ﴿فكيف إذا جئنا من كل امة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا﴾([25]). رأيت عينيه تذرفان من الدمع فقال حسبك الآن، وما روي من قول الرسول r «من سره أن يقرأ القرآن رطبا كما أنزل فليقراه على قراءة أم معبد»([26])، وذلك حين قام ابن مسعود يصلي والنبي r يسمع قراءته. وكل هذه النصوص تدل دلالة قاطعة على الدرجة الكبيرة في توثيق النص القرآني وضبطه. يزكي هذا الكلام الحديث الذي رواه عطاء بن يسار عن أبي سعيد عن النبي r أنه قال «لا تكتبوا عني شيئا غير القرآن، فمن كتب شيئا عني غير القرآن فليمحه» ([27]). فالرسول r مبالغة منه في الحفاظ على النص القرآني رأى أن لا يكتب شيء عنه من كلامه سوى القرآن، حتى لا يختلط الأمر فيما بعد على المسلمين بين السنة والقرآن.
لذلك كان القرآن، النص العربي الصحيح المتواتر المجمع على تلاوته بالطرق التي وصل إلينا بها في الأداء والحركات والسكنات، «فلم يتوفر لنص ما توفر للقرآن الكريم من تواتر رواياته وعناية العلماء بضبطها وتحريرها متنا وسندا »([28]). بل لم تعرف البشرية كتابا أحيط بالعناية، واكتنف بالرعاية فحوفظ على تركيبه وكلماته وحروفه وحركاته، وكيفية ترتيله بلهجاته مع إتقان متنها في التلقين، ودقة بالغة في الأخذ والأداء - مثل الكتاب العزيز- ولهذا كان القرآن الكريم الوارد إلينا عن طريق الصحابة والقراء التابعين- وهم جميعا ممن يحتج بكلامهم العادي فضلا عن قراءاتهم التي تحروا ضبطها، حجة في اللغة.
2- القراءات القرآنية:
القراءات القرآنية، هي الوجوه التي سمح النبي r بقراءة نص المصحف بها قصدا للتيسير، التي جاءت وفقا للهجة من اللهجات العربية، يقول ابن الجزري «فأما وروده على سبعة أحرف فللتخفيف على هذه الأمة وإرادة اليسر بها والتهوين عليها، وتوسعة ورحمة وخصوصية لفظها وإجابة لقصد نبيها.. حيث أتاه جبريل فقال له إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف فقال r أسأل الله معافاته ومعونته، إن أمتي لا تطيق ذلك، ولم يزل يردد المسألة حتى بلغ سبعة أحرف» ([29]).
ويتفق هذا الكلام مع ما رواه ابن عباس t أن رسول الله r قال «أقرأني جبريل على حرف فراجعته، فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف» ([30]). وهذا الحديث مشهور في كتب القراءات والتفاسير، كما ورد بطرق متعددة، وبأوجه مختلفة ولكنها متفقة في الفكرة، وهي أن الرسول r أدرك أن الأمة العربية لا تستطيع أن تقرأ كتاب الله إذا نزل بلغة واحدة، لأن لغة العرب لهجات مختلفة، فلو كلفوا العدول عن لغتهم والانتقال عن ألسنتهم، لكان من التكليف بما لا يطاق.
فكان من تيسير الله تعالى، أن أمر نبيه r بأن يقرئ كل أمة بلغتهم، وما جرت عليه عادتهم. فالهذلي يقرأ «عتى حين» يريد حتى والقرشي لا يهمز والآخر يقرأ «قيل لهم - وغيض الماء بالإشمام» وهذا يقرا «منهم وعليهم»وأخر يقرأ «عليهمو ومنهمو»بالصلة إلى غير ذلك. ولو أراد كل فريق من هؤلاء أن يزول عن لغته، وما جرى عليه اعتياده طفلا وناشئا وكهلا، لاشتد عليه وعظمت المحنة فيه. وبذلك يفهم أن الاختلاف في كثير من القراءات القرآنية، يرجع إلى اختلاف لهجات العرب، فتكون القراءات القرآنية مصدرا هاما من مصادر العربية.( سنعود لتفصيل هذا الموضوع في محاضرة مستقلة)
3- الحديث النبو الشريف:
المشهور بين الباحثين، أن قدامى اللغويين والنحاة كانوا يرفضون الاستشهاد بالحديث في اللغة، فلا يستندون إليه في إثبات ألفاظها أو وضع قواعدها، وقد حاولوا تعليل هذا الرفض المزعوم، وانتهوا إلى أنه يرجع لسببين اثنين: أحدهما أن الرواة جوزوا النقل بالمعنى، والثاني أنه وقع كثيرا فيما روي من الحديث. لأن كثيرا من الرواة كانوا غير عرب بالطبع.
والذي نحب أن نلفت النظر إليه، أن هؤلاء القدماء الذين نسب إليهم رفضهم الاستشهاد بالحديث لم يثيروا هذه المسالة، ولم يناقشوا مبدأ الاحتجاج بالحديث، ولم يصرحوا برفض الاستشهاد به، وإنما هو استنتاج المتأخرين الذين لاحظوا عدم استشهاد القدماء بالحديث، فبنوا عليه أنهم يرفضون الاستشهاد به، ثم حاولوا تعليل ذلك.
وما يؤكد هذا الكلام، أن هناك من الأدلة ما يقطع أنهم كانوا يستشهدون بالحديث، ويبنون عليه قواعدهم، سواء في اللغة أو النحو أو غيرهما من العلوم العربية.
ولهذا لا يسع الباحث المدقق أن يسلم بما ادعاه المتأخرون وسنده في ذلك ما يلي:
1- إن الأحاديث أصح سندا مما نقل من أشعار العرب.
2- إن من المحدثين من ذهب إلى عدم جواز الرواية بالمعنى، إلا لمن أحاط بجميع دقائق اللغة، وإلا فلا يجوز له الرواية بالمعنى.
3- إن كثيرا من الأحاديث دون في الصدر الأول قبل فساد اللغة على أيدي رجال يحتج بأقوالهم في العربية.
4- لو صح أن القدماء لم يستشهدوا بالحديث، فليس معناه أنهم كانوا لا يجيزون الاستشهاد به، إذ لا يلزم من عدم استدلالهم بالحديث، عدم صحة الاستدلال به.
وقد ثبت فعلا أن أوائل النحاة من شيوخ سيبويه حتى زمن صحيح البخاري، لم يكثروا من الاستشهاد بالحديث لأنه لم يكن مدونا في زمانهم.
5- من اللغويين الذين استشهدوا بالحديث في مسائل اللغة، أبو عمرو بن العلاء، والخليل، والكسائي، والفراء، والأصمعي، وأبو عبيد، وابن الأعرابي، وابن السكيت، وأبو حاتم، وابن قتيبة، والمبرد، وابن دريد، وأبو جعفر النحاس، وابن خالويه، والأزهري، والفارابي، وابن عباد، وابن فارس، والجوهري، وابن سيدة، وابن منظورن والفيروزابادي، وغيرهم.
ومن النحاة الأوائل الذين استشهدوا أيضا بالحديث في مسائل النحو نذكر ما يلي:
أبو عمرو بن العلاء والخليل وسيبويه والفراء والزجاجي والزمخشري وابن خروف وابن الخباز وابن مالك وابن عقيل والأشموني والسيوطي وغيرهم كثير. وفاق كل هؤلاء ابن مالك وبلغ الذروة في الاستشهاد بالحديث في كتابه (شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح)، وحتى الذين رفضوا الاستشهاد بالحديث وعلى رأسهم ابن الضائع وأبو حيان لم تخل كتبهما من بعض الحديث.
4- كلام العرب:
لاشك أن الروايات التي جاءت عن العرب، وامتلأت بها كتب اللغة والنحو والأدب والتاريخ، تمدنا بروافد عديدة في موضوع اللهجات العربية، وذلك أن العلماء عندما قرروا جمع اللغة أخذوها عن العرب الفصحاء الموثوق بعربيتهم، الذين لم تفسدهم الحضارة، وكان الشعر أحد المصادر التي لاقت اهتماما كبيرا من اللغويين، واعتبروه الدعامة الأولى لهم، حتى لقد تخصصت كلمة الشاهد الشعري فيما بعد، وأصبحت مقصورة على الشعر فقط. ولذلك نجد كتب الشواهد لا تضم غير الشعر ولا تهتم بما عداه . ويقسم اللغويون الشعراء إلى طبقات أربع وهي:
أولا: الشعراء الجاهليون قبل الإسلام.
ثانيا: الشعراء المخضرمون، وهم الذين أدركوا الجاهلية والإسلام.
ثالثا: الشعراء الإسلاميون، وهم الذين كانوا في صدر الإسلام كجرير والفرزدق وآخرهم ابن هرمة. قال الأصمعي «ختم الشعراء بان هرمة»([31]). وقال أبو عبيدة «افتتح الشعر بامرئ القيس وختم بابن هرمة»([32]).
رابعا: المولدون وهم من بعده إلى زمان بشار وأبي نواس.
فالطبقة الأولى والثانية، يستشهد بشعرهما إجماعا، وإن كان من بينهما بعض الشعراء الذين طعن فيهم، كعدي بن زيد وأبي دؤاد الأيادي.
أما الطبقة الثالثة، فالصحيح جواز الاستشهاد بشعرها، وقد كان أبو عمرو بن العلاء والحسن البصري وعبد الله بن أبي إسحاق يلحنون الفرزدق والكميت وذا الرمة وأضرابهم. يقول الأصمعي:«جلست إلى أبي عمر بن العلاء ثماني حجج فما سمعته يحتج ببيت إسلامي»([33]) .
وأما الطبقة الرابعة، فالصحيح أنه لا يستشهد بشعرها مطلقا، ومنهم من أباح الاستشهاد بكلام من يوثق به منه، ومن هؤلاء الزمخشري الذي كان يرى الاحتجاج بشعر أبي تمام.
وإلى جانب الشعر، نجد الشواهد النثرية التي جاءت في شكل خطبة أو وصية أو مثل أو حكمة أو نادرة. ويعد هذا من آداب العرب، وأخذ في الاستشهاد به مكان الشعر.
وقد وضع اللغويون شروطا تشمل الزمان والمكان بالنسبة لهذا المصدر (كلام العرب). أما من ناحية الزمان فقد حددوا في نهاية الفترة التي يستشهد بها بآخر القرن الثاني الهجري بالنسبة لعرب الأمصار. وآخر القرن الرابع الهجري بالنسبة لعرب البادية.
وأما المكان، فقد ربطوه بفكرة البداوة والحضارة، فكلما كانت القبيلة بدوية، أو أقرب إلى حياة البداوة، كانت لغتها أفصح، والثقة فيها أكبر، وكلما كانت متحضرة، أو أقرب إلى حياة الحضارة، كانت لغتها محل شك ومثار شبهة، ولذلك تجنبوا الأخذ عنها.
يقول الفارابي: «كانت قريش أجود العرب انتقاء للأفصح من الألفاظ وأسهلها على اللسان عند النطق، وأحسنها مسموعا، وأبينها إبانة عما في النفس. والذين نقلت عنهم اللغة وبهم اقتدي، وعنهم أخذ اللسان العربي من بين قبائل العرب هم قيس وتميم وأسد، فإن هؤلاء هم الذين عنهم أخذ أكثر ما أخذ ومعظمه. وعليهم اتكل في الغريب وفي الإعراب وفي التصريف، ثم هذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين»([34]) .
لقد كانت هذه المرحلة من تاريخ تدوين اللغة العربية، بداية لمرحلة جديدة تمثلت في إقبال العلماء على التأليف والدراسة في كل العلوم اللغوية، وكان الإقبال على هذه العلوم، من الأمور الدينية كما ذكره السيوطي في المزهر حين قال " ولا شك أن علم اللغة من الدين، لأنه من فروض الكفايات، وبه تعرف معاني ألفاظ القرآن والسنة، أخرج أبو بكر الأنباري في كتاب الوقف والابتداء بسنده عن عمر بن الخطاب t قال: لا يقرئ القرآن إلا عالم بالعربية ..وقال الفارابي في خطبة ديوان الأدب: القرآن كلام الله وتنزيله، فصل فيه مصالح العباد في معاشهم ومعادهم، مما يأتون ويدرون، ولا سبيل إلى علمه وإدراك معانيه إلا بالتبحر في علم هذه اللغة"([35]).
وأول ما عرف في تاريخ التأليف اللغوي عند العرب، تلك الحركة الهادفة إلى تفسير غريب القرآن، وغريب الحديث، باعتباره مفسرا للقرآن، وهي حركة لم يشهدها العهد النبوي، لأن الرسولr كان المرجع في تفسير ما استشكل على المسلمين من أمور دينهم ودنياهم. وتعتبر هذه المحاولات بمثابة الجذور الأولى لبداية درس لغوي حقيقي عند العرب، وهو ما انطلق فيه التأليف فعلا، أواخر القرن الأول الهجري، وبداية الثاني منه، وذاك ما سنعمل على مناقشته في دراسة لاحقة بحول الله تعالى.
الهوامش:
* أستاذ علوم اللغة العربية واللسانيات بكلية الآداب، جامعة السلطان مولاي سليمان، بني ملال، وأستاذ زائر، بالكلية متعددة التخصصات بخريبكة، جامعة الحسن الأول. المغرب.
([1]) الروايا من الإبل: الحوامل للماء، واحدتها راوية.
([2]) الزمخشري أساس البلاغة ، مادة: روى. دار الكتب، القاهرة، الطبعة الثانية، 1972م.
([3]) الشلقاني، رواية اللغة، ص: 37. دار المعارف القاهرة مصر.
([4]) الأزهري، تهذيب اللغة، مادة: روى. تحقيق عبد السلام هارون وآخرين، دار الكتاب العربي، القاهرة، 1964م/1967م.
([5]) ابن منظور، لسان العرب، مادة: روى. دار صادر للنشر بيروت الطبعة الثالثة السنة 1994م.
([6]) الجوهري، تاج اللغة وصحاح العربية، مادة: روى. تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، دار الكتاب العربي، القاهرة، 1956م/1958م.
([7]) محمد عيد، الرواية والاستشهاد باللغة: دراسة لقضايا الروايا والاستشهاد في ضوء علم اللغة الحديث ص:10، عالم الكتب، القاهرة 1976م.
([8]) لسان العرب، مادة: سمع.
([9]) السيوطي: الاقتراح في علم أصول النحو ص:36. تحقيق احمد سليم الحمصي ومحمد احمد قاسم، جروس بريس، الطبعة الأولى،1988م.
([10]) علي أبو المكارم،أصول التفكير النحوي، ص:21. منشورات الجامعة الليبية، 1973م.
([11]) سنن الترميذي كتاب العلم.
([12]) عبده الراجحي، فقه اللغة في الكتب العربية، ص:34-35. دار النهضة العربية بيروت لبنان.
([13]) سورة المائدة، الآية:67.
([14]) السيوطي، المزهر في علوم اللغة وأنواعها 1/138. ، تحقيق محمد أحمد جاد المولى/ محمد أبو الفضل إبراهيم/ علي محمد البجاوي، المكتبة العصرية صيدا بيروت. 1408هـ/1989م.
([15]) مصطفى صادق الرافعي، تاريخ أدب العرب 1/330. دار الفكر بيروت لبنان.
([16]) ابن خلدون، المقدمة، ص: 129-130. دار الجيل بيروت لبنان.
([17])المزهر، 1/ 211-212.
([18]) الزبيدي، طبقات النحويين واللغويين، ص:39. تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، الطبعة الثانية، دار المعارف، مصر.
([19]) المزهر 1/234.
([20]) عبد العالي الودغيري، من قضايا المعجم عند ابن الطيب الشرقي، ص:53. منشورات عكاظ، المغرب. الطبع الأولى، 1998م.
([21]) الاقتراح في علم أصول النحو، ص:36
([22]) مفردات الراغب الأصفهاني
([23]) الزركشي، البرهان 1 /318. تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية صيدا بيروت.
([24]) الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام 1/228. تحقيق سيد الجميلي، دار الكتاب العربي، الطبعة الثانية،1986م
([25]) سورة النساء، الآية:44.
([26]) مسند أحمد، كتاب العشرة المبشرين بالجنة.
([27]) مسند أحمد، كتاب باقي المكثرين.
([28]) سعيد الأفغاني، في أصول النحو،ص: 25. جامعة دمشق،دار الفكر، الطبعة الثالثة.
([29]) ابن الجزري، النشر في القراءات العشر1/22. تحقيق محمد الضباع، دار الفكر بيروت.
([30]) صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن. تقديم أحمد محمد شاكر، دار الجيل بيروت.
([31]) الاقتراح في علم أصول النحو، ص:26.
([32]) ابن رشيق، العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، ص:56. تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الجيل بيروت لبنان. الطبعة الخامسة. 1401هـ/1981م.
([33]) العمدة، ص:57.
([34]) المزهر 1/211-212.
([35]) المزهر 2/302.