الأستاذ: ادريس ميموني
تـقديــم :
إن نظرة بسيطة في واقع اللغة العربية اليوم ، وما آلت إليه في تصور المتكلمين بها، تلزم الباحث للقيام بتشخيص دقيق ووصف امين لجملة من القضايا المرتبطة بواقع اللغة في علاقتها بمتكلميها، وفي ذلك إجابة عن بعض الأسئلة التي أصبحت تقض مضجع الأمة وتهز كيانها ، ومن ضمنها تحديد نوعية العلاقة الموجودة بين اللغة العربية والعلوم الشرعية ، وكذا تحديد علاقة اللغة بالمقاصد بصفة عامة، والمقاصد الشرعية بصفة خاصة ، في وقت سيطرت فيه النزعات الاستشراقية في بلاد العرب، وكثر فيه الحديث عن موقع اللغة العربية في عصر ( العولمة ) ، خصوصا وقد اصبح المتكلم بها، وكذا المتكلم عنها غريبا ترقبه العيون شزرا وتتلقاه الوجوه بالإمتعاض، وليس هذا فقط عند الجاهلين بما تؤول إليه هذه النظرة وما يترتب عنها من مفاسد وأضرار، بل حتى عند المتخصصين الذين يفترض فيهم التنبيه الى خطورة تخلي أمة من الأمم عن لغتها .
فاللغة العربية رمز الحضارة الإسلامية ، وقلبها النابض ووسيلة ابنائها للتدوين والتواصل ، وقد استطاعت بفضل ما لها من خصائص البقاء التي تستمدها من كونها لغة القرآن الكريم وحاملة رسالة الإسلام أن تستوعب كل ما أفرزته الحضارات الأخرى في مجالات الحياة كافة .
إن هذا الارتباط الوثيق بين اللغة والعقيدة، سمة تفردت به الحضارة الإسلامية مما جعل اللغة محل استهداف اعداء هذه الحضارة ، الذين يرمون إلى تقويض العقيدة الإسلامية في النفوس، بهدم اللغة العربية، لاعتبارها سياج هويتها ووعاء ثقافتها وفكرها، فإذا كنا نعلم بأن الله تعالى كرم الإنسان باختياره له من دون مخلوقاته ليسخلفه في الأرض حيث قال تعالى ﴿ ولقد كرمنا بني آدم ﴾(1) و قوله تعالى : ﴿وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة﴾(2) ثم زوده باللغة ليضطلع بمسؤوليات الخلافة حيث قال تعالى ﴿ وعلم آدم الأسماء كلها﴾ (3) ويسر له السبل بأن جعله متكلما بلسان عربي مبين، فشرفه تعالى بجعل لغته لغة كتابه ونبيه المرسل r .فإننا مطالبون بمتابعة البحث في اللغة العربية << حفاظا على هذه المنحة الربانية، ورعاية للمهارات التي تحيط بها،خطابا وتلقيا وكتابة وتعليما واداء للعلم والمعارف>>(4).
وفي هذا الإطار ياتي هذا البحث متتبعا للفكرة المقاصدية من عربية القرآن الكريم من خلال محورين أساسيين يجعلان في الاعتبار التلازم الموجود بين اللغة والعقيدة كمنطلق للتحليل من خلال نموذج الأصوليين ، إذ من المعلوم ، أن العملية التواصلية لابد من أن تتم وفق شروط محددة وقوانين دقيقة يستلزم بعضها البعض الآخر ، فكان لابد من النظر في هذه الشروط وكذا في هذه الأركان وفق ما يقتضيه نظر الأصوليين لها . يقول الغزالي : " إن أصل الأحكام واحد وهو قول الله تعالى "(5)ثم إن القرآن الذي هو قول الله خطاب ، المتكلم فيه هو الشرع ، والمتلقي للخطاب هو المكلف ، ومضمون الخطاب هو الكلام ، والكلام في قسمة الأصولي ، أمر ونهي وخبر واستخبار ، والكلام من حيث هو أحكام ، أمر ونهي ، والحكم هو خطاب الشرع إذا تعلق بأفعال المكلفين .
ولما كان التكليف وفهم التكليف ، والعمل بالتكليف ، قضايا إبلاغه وتواصلية خاصة ، تتم عبر اللغة الطبيعية ، كان الإبلاغ والتواصل الشرعي ينتمي الى جنس أعم هو الإبلاغ والتواصل اللغوي ، وبذلك لابد للعملية التواصلية في نظر الأصوليين من عدة أركان نجملها في المسائل الآتية .
• الركن الأول : الخطاب ـ وهو نفس الحكم .
• الركن الثاني : الحاكم ، وهو المخاطب ، فالحكم خطاب وكلام ، فاعله كل متكلم .
• الركن الثالث : المحكوم عليه ، وهو المكلف او المخاطب ، وشرطه أن يكون عاقلا يفهم الخطاب ، فلا يصح خطاب الجماد والبهيمة، ولا خطاب المجنون والصبي ، لأن التكليف مقتضاه الطاعة وقصد الامتثال ، وشرط القصد العلم بالمقصود والفهم للتكليف
- الركن الرابع : أن يكون بحيث يصح إرادة إيقاعه طاعة وهو اكثر العبادات (6)
فكل اخلال بركن من هذه الأركان يفسد العملية ، ويجعلها كما يقول الشاطبي " في الشرع بمثابة حركات العجماوات والجمادات "(7).
وبالنظر إلى القول أعلاه يتبين أن الأصوليين لم ينظروا للخطاب مجردا عن صاحبه وعن متلقيه، وعن وجوه العلاقة بين صاحب الخطاب والمخاطب ، بل نظروا إليه كمما يتداول طبيعيا ، ومن ثم لزمهم الاعتناء بشروط تحققه طبيعيا ، من وجود المخاطب (الحاكم) والمخاطب (المكلف) ، ومعرفة المكلف لمقاصد المخاطب وكذا وجود قضية أو فعل يكون مناط التكليف .
وتعد هذه القواعد في مجملها حدودا تجنب المستنبط الوقوع في الزلل فيما يتصدى له من وقائع يضع لها حكما أو يطبق عليها حكما ، ومن هنا وجه الأصوليون عنايتهم إلى معرفة قصد المتكلم وتحديد مراده وأفردوا لذلك أبوابا في بحوثهم تناولوا فيه قصد الشارع وقصد المكلف ( وهو قصد الخطاب في عمومه) مما ينبئ بخطورة المسألة ودقتها في تقرير الحكم(8)، فالوقوف عند حرفية النص ، منهج لا يتفق مع طبيعة التشريع ذاته ، لذا كان الإعتناء بالألفاظ والمعاني طرفا أساسيا للحديث في أصول الفقه ، وهو اعتناء لا ينحصر في قضية لغوية واحدة ، ولا في التمييز بين الألفاظ الشرعية واللغوية والعرفية ، أو الحقيقية والمجازية ،إلى غير ذلك من المقدمات التي تتصدر كتب الأصوليين ، بل يتجاوزه ليكون خوصا في ما تؤديه هذه الألفاظ من معان ودلالات ، إفرادا وتركيبا ، وليس معنى هذا الكلام أن الأصوليين ، كما قد يظن الكثير – لا يعطون النص بقطع النظر عن قائله أي دور في الدلالة والمعرفة ، بل إن النص عندهم لا يدل إلا بعد معرفة قائله ومعرفة قصده ، فإذا كانت الدلالة الحقيقية تابعة لقصد المتكلم وإرادته ، فإنه لابد للكشف عن المعنى من معرفة قصد المتكلم بالقرائن المختلفة وذلك لأن دلالات الألفاظ كما يقول الأمدي <<ليست لذواتها بل هي تابعة لقصد المتكلم وإرادته>>(9).
لقد كان هذا أيضا منهج علماء الحديث الذين تحددت مصداقية النص عندهم تبعا لصدق رجال السند من ناحية ، وتبعا لدرجة اتصال السند أو انقطاعه من ناحية أخرى ، وهذا إن دل على شيء إنما يدل على أهمية القضايا اللغوية في الخطاب الأصولي النابع من كون الشريعة التي هي موضوع النظر عربية .
1- مقصدية عربية القرآن الكريم :
شكل نزول القرآن الكريم – بلغة العرب – عاملا مهما في ارتباط العلوم اللغوية بالعلوم الشرعية، فنشأت مترابطة متداخلة يصعب معها الإحاطة بواحدة منها دون الأخرى ، وذلك لكون القرآن الكريم والسنة النبوية اللذين هما مدار التكليف واردان باللغة العربة، ومن ثم وجبت معرفة أساليبها والووقوف على مقصوديهما في الجمل والعبارات لاستنباط حكم صحيح لأن <<معظم الكلام في الأصول يتعلق بالألفاظ والمعاني ، ولن يستكمل المرء خلال الاستقلال بالنظر ما لم يكن ريانا من النحو واللغة>>(10)، يقول ابن السراج موضحا هذا الكلام <<فإن الواجب على كل من عرف أنه مخاطب بالتنزيل ومأمور بفهم كلام الرسول غير معذور في الجهل بمعناهما ولا مسامح في ترك العمل بمقتضاهما ، أن يتقدم فيتعلم اللسان الذي أنزل الله به القرآن حتى يفهم كلام الله وحديث رسول الله r ، إذ لا سبيل لفهمهما دون معرفة الإعراب وتمييز الخطإ من الصواب ، لأن الإعراب إنما وضع للفرق بين المعاني … فلو ذهب الإعراب لاختلطت المعاني ولم يتميز بعضها من بعض ، وتعذر على المخاطب فهم ما أريد منه ، فوجب لذلك فهم هذا العلم إذ هو من أوكد أسباب الفهم فأعرف ذلك ولا تجد غنى عنه>>(11) ، ويزداد هذا الإرتباط توطدا وأهمية في الآيات القرآنية التي تؤكد على عربية القرآن واختيار هذا اللسان لحمله إلى أفطار الارض جميعا، وقد كانت اللغة كأصحابها وبينتها أصلح ما تكون لهذا الحدث الكوني العظيم .
<<وهكذا تبدو سلسلة طويلة من الموافقات المختارة لهذه الرسالة (الإسلام) حيثما وجه الباحث نظره إلى تدبر حكمة الله واختياره>>(12) ، ومصداق قوله تعالى : <<الله أعلم حيث يجعل رسالته>>(13).
فإذا حق لنا أن نقول إن القرآن الكريم جاء مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه مصداقا لقوله تعالى : <<وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه>>(14) فإن لغة التنزيل التي هي جزء منه قد اكتسبت خصائص الهيمنة نفسها ، بالنسبة لسائر اللغات وأوعية التفكير ووسائل التعبير والتغيير والتواصل يقول تعالى: <<نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين >>(15)، وقوله تعالى :<<قرآنا عربيا غير ذي عوج>>(16) وقوله تعالى : <<إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون>>(17) وقوله تعالى<<كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعقلون>>(18).
إن هذه الحروف الأبجدية تلفت النظر العقلي إلى أن آي القرآن مصوغ من هذه الحروف التي يستعملها العرب في معهودهم للخطاب، وما لهذا الإختيار من أبعاد ودلالات تدل على وجود الإمكانية والقدرة للقيام بالمهمة وحمل الأمانة وأداء البيان على طول خطي الزمان والمكان ، مع كل ما يتطلبه ذلك من عناصر للصمود والتحدي ، مصداقا لقوله تعالى:<<الرحمان علم القران خلق الإنسان علمه البيان>>(19)ولذلك اعتبرت اللغة العربية المقوم الأساس في بناء الأمة وقيامها ، لأنها لغة التواصل والاتصال والصياغة لكل الأفكار(20) <<وليس ذلك فحسب ، وإنما هي المدخل الأخطر لبعثرة الأمة ، والعبث بتراثها وتاريخها وذاكرتها ، وعزلها عن تجاربها وماضيها وقيمها وشخصيتها الحضارية، وحاولة تشكيلها من جديد في إطار معطيات لغة أخرى … لذلك كان عزل اللغة والتهوين من شأنها من أخطر مداخل الغزو الفكري والارتهان الثقافي>>(21) . إن الصلة بين ما هو لغوي وما هو شرعي لا يخلو منه مؤلف من مؤلفات القدماء إلا وينبه إليه يقول الثعالبي: <<والعربية خير اللغات والألسنة والإقبال على تفهمها من الديانة ، إذ هي أداة العلم ومقتاح التفقه في الدين وسبب إصلاح المعاش … ولو لم يكن في الإحاطة بخصائصها والوقوف على مجاريها وتصاريفها والتبحر في جلائلها ودقائقها إلا قوة اليقين في معرفة إعجاز القرآن وزيادة البصيرة في إثبات النبوة الذي هو عمدة الإيمان لكفى بها فضلا يحسن أثره ويطيب في الدارين ثمره>>(22).
وهكذا كانت اللغة العربية منذ نشأة البحث فيها أداة أساسية من أدوات الدرس اللغوي والشرعي، فارتكزت عليها جهود علماء المسلمين كالمفسرين والأصوليين والفقهاء وعلماء الكلام فضلا عن علماء اللغة(23) وذلك <<لتوقف معرفة دلالات الأدلة اللفظية من الكتاب والسنة، وأقوال أهل الحل والعقد من الأمة على معرفة موضوعاها لغة ، من جهة الحقيقة والمجاز والعموم والخصوص والحذف والإضمار والمنطوق والمفهوم، والإقتضاء والإشارة والتنبيه والإيماء وغيره ، مما لا يعرف في غير علم العربية>>(24) وتزداد هذه العلاقة وضوحا عند حديث الإمام الشافعي في الرسالة ، وهو بصدد الكلام عن المنهج الذي اختطه ليكون دليلا لتأسيس فهم صحيح للنصوص حيث قال : <<وإنما بدأت بما وضعت من أن القرآن نزل بلسان العرب دون غيره ، لأنه لا يعلم من إيضاح جمل علم الكتاب أحد جهل سعة لسان العرب وكثرة وجوهه وجماع معاينه وتفرقها ، ومن علمه انتفت عنه الشبه التي دخلت على من جهل لسانها>>(25).
يظهر من خلال الرسالة أن الإمام الشافعي كان يربط بين عملية فهم الكلام الإلهي ومعرفة اللغة العربية ، وهو ربط يرجع بالأساس إلى أن الدليل السمعي الذي يجب فهمه ، يتقدم إلى المتلقي عبر اللغة العربية ، ولم يكن الشافعي الوحيد الذي أكد على هذا الربط كشرط في فهم النصوص ، فهذا الجاحظ يقول: <<فللعرب أمثال واشتقاقات وابنية وموضع كلام ، يدل عندهم على معانيهم وإرادتهم، ولتلك الألفاظ مواضع آخر، ولها حينئذ دلالات أخر ، فمن لم يعرفها جهل تأويل الكتاب والسنة والمثل، فإذا نظر في الكلام وفي ضروب من العلم ، وليس هو من أهل هذا الشأن هلك وأهلك>>(26).
لقد برهنت هذه النصوص على دقة نظر الأصوليين في تحديد أهدافهم ووضوح نظرهم لأنهم قوم لا يهتمون فقط بالمعنى الواضح الذي يستفاد من النص لأنه المعنى الأول ، وقد لا يكون مرادا للمشرع ، والشريعة ليست مجرد ألفاظ لغوية أو جملا وعبارات منظومة وإنما هي قبل كل شيء دلالات ومفاهيم تجسد روح التشريع ومقاصده، لذا لم تكن نظرتهم في فهم النصوص واستخلاص الدلالة مقصورة على قواعد اللغة وحدها، بل كان اهتمامهم متجها نحو الإعتماد على كل ما من شأنه ضبط الدلالة اللغوية، سواء تعلق الأمر بالبنيات اللغوية أو السياقية عامة أو خاصة(27).
2) مقصدية الدليل الكلامي :
من المسائل المسلم بها في تراثنا العرب الإسلامي ، اعتبار الدليل الكلامي دليلا قصديا، وهو ما يميز الفكر اللغوي عند العرب والمسلمين بميزة تداولية أصيلة تربط الخطاب بمرسله ومتلقيه، وهي نظرة تجعل من اللغة انجازا فعليا واقعيا، وليست بنية مبتورة عن سياقها التواصلي، وحسبنا نسجل بهذا الخصوص تأكيد علماء العرب والمسلمين على المقصدية في الكلام، لأن اللغة إنما وضعت ليستفاد منها غرضها الذي وضعت له، وهو إقدار المتكلمين على التفاهم، ومعرفة بعضهم حاجات بعض، وقد ناقش الأصوليون هذه المسألة ضمن حديثهم عن الحكمة الداعية إلى وضع اللغة(28) . يقول الآمدي <<لما كان كل واحد لا يستقل بتحصيل معارفه بنفسه وحده دون معين ومساعد له من نوعه… دعت الحاجة إلى نصب دلائل يتوصل بها كل إلى معرفة ما في ضمير الآخر من المعلومات المعينة له في تحقيق غرضه، ولذلك استخدم الإنسان ما يتركب من المقاطع الصوتية، التي خص بها نوع الإنسان، دون سائر أنواع الحيوان، عناية من الله تعالى به… ومن اختلاف تركيبات المقاطع الصوتية، حدثت الدلائل الكلامية والعبارات اللغوية.>>(29).
فاللغة هي الوسيلة الوحيدة لقضاء حوائج البشر والتفاهم بينهم وهي الوسيلة الأكثر طواعية لأنها وجدت استعدادا طبيعيا في الإنسان، الأمر الذي مكنه من استخدامها بشكل تلقائي(30) وقد تبع حديثهم عن هذه الوظيفة وما تستوجبه من مقتضيات ، الحديث عن ضرورة الوضوح في الكلام حتى لا يحتاج إلى تخريج باطن يقول ابن حزم في الرد على أصحاب التأويل الباطن<<وقد علم كل ذي عقل أن اللغات إنما رتبها الله عز وجل ليقع بها البيان، واللغات ليست شيئا غير الألفاظ المركبة على المعاني، المبينة عن مسمياتها … فإذا لم يكن الكلام مبينا عن معاينه فأي شيء يفهم هؤلاء … عن ربهم تعالى، وعن نبيهم r ؟ بل بأي شيء يفهم به بعضهم بعضا>>(31).
وهذا ما تؤكده تعريفاتهم للكلمة والكلام واللغة . فصارت الكلمة هي<<اللفظة الموضوعة للمعنى مفردة، والمراد بالإفراد أنها بمجموعها وضعت لذلك المعنى دفعة واحدة>>(32).
أما الكلام فهو : <<كل لفظ مستقل بنفسه مفيد لمعناه ، وهو الذي يسميه النحويون الجمل>>(33)وهو عند ابن سنان الخفاجي ما <<يتعلق بالمعاني والفوائد بالمواضعة>>(34) وأما اللغة فهي عند ابن جني <<أصوات يعبربها كل قوم عن أغراضهم>>(35) وهي عند ابن سنان الخفاجي<<عبارة عما يتواضع القوم عليه من الكلام>>(36) وهي عند الأسنوي <<عبارة عن الألفاظ الموضوعة للمعاني>>(37). أما عند ابن خلدون فهي <<عبارة المتكلم عن مقصوده ، وتلك العبارة فعل لساني ، فلابد أن تصير ملكة متقررة في العضو الفاعل لها ، وهو اللسان في كل أمة بحسب اصطلاحاتهم>>(38).
إن أهم ما يميز هذه التعريفات، هو الحضور اللازم لمتصور القصد في تنزله ضمن محركات الحدث اللساني الكامن وراء قانون المواضعة، وبذلك يصبح متعلقا بمفهومين ملابسين له في حقله الدلالي وفي اقتضائه التصوري ، وهما مفهوم الإرادة ومفهوم الاعتقاد وينصبان معا في مبدإ النية كمتصور تشريعي، فلا نتحدث عن ضرورة القصد في عملية التخاطب والإبلاغ إلا ونعني قيام هذه الجملة من الشروط الفرعية معه (39) وهذا ما يدل دلالة واضحة على أن حذف اللغة ليس مرتبطا باللغة ذاتها بل بمستوى الإنجاز والاستعمال ، وبذلك تأخذ اللغة بعدها الحقيقي في العملية التواصلية التي لابد فيها من الالتزام بنظام اللغة ، مع استحضار السياق أو المقام التواصلي ، مع حسن التقدير في الإلقاء والتلقي، يقول ابن خلدون <<إعلم أن اللغات كلها ملكات شبيهة بالصناعة، إذ هي ملكات في اللسان للعبارة عن المعاني ، وجودتها وقصورها . بحسب تمام الملكة أو نقصانها، وليس ذلك بالنظر إلى المفردات ، وإنما هو بالنظر إلى التركيب، فإذا حصلت الملكة التامة في تركيب الألفاظ المفردة للتعبير بها عن المعاني المقصودة ومراعاة التأليف الذي يطبق الكلام على مقتضى الحال، بلغ المتكلم حينئذ الغاية من إفادة مقصوده للسامع>>(40) . أما عبد القاهر الجرجاني فقد عد شخص المتكلم شرطا ترتد إليه اللغة في ظاهرة الكلام وإنجاز الخطاب ، مادامت اللغة مجرد رموز وسمات معبرة عن قصد صاحبها يقول: <<وإذ قد ثبت أن الخبر وسائر معاني الكلام، معان ينشئها الإنسان في نفسه، ويصرفها في فكره ويناجي بها قلبه، ويرجع فيها إليه، فاعلم أن الفائدة في العلم بها واقعة من المنشئ لها صادرة عن القاصد إليها>>(41) .
ويرى عبد القاهر تبعا لذلك أن مستويات العملية اللغوية لا تقوم إلا على :
1- القصد إلى الاخبار بمعنى .
2- تعليق معنى كلمة بمعنى كلمة أخرى .
3- اعلام السامع بالخبر عن طريق تعليق الكلمات، لا عن طريق الكلمة المفردة ,.
4- ضرورة وجود ألفاظ ورموزمتواضع عليها، يكون العلم بمعناها مشتركا بين المتكلم والسامع(42) يقول عبد القاهر الجرجاني . <<وليت شعري كيف يتصور قصد منك إلى معنى كلمة دون أن تريد تعليقها بمعنى كلمة أخرى، ومعنى القصد إلى معاني الكلم أن تعلم السامع بها شيئا لا يعلمه، ومعلوم أنك أيها المتكلم لست تقصد أن تعلم السامع معاني الكلم المفردة التي تكلمه بها، فلا تقول (خرج زيد) لتعلمه معنى (خرج) في اللغة ومعنى (زيد) ، كيف ومحال أن تكلمه بألفاظ لا يعرف هو معانيها كما تعرف؟ ولهذا لم يكن الفعل وحده من دون الاسم، والاسم وحده من دون اسم آخر أو فعل كلاما، وكنت لو قلت (خرج) ولم تأت باسم ولا قدرت فيه ضمير الشيء ، أو قلت (زيد) ولم تأت بفعل ولا اسم آخر ولم تضمره في نفسك، كان ذلك وصوتا تصوته سواء>>(43).
3) مقصدية اختصاص الإنسان باللغة.
تعتبر مسلمة اختصاص الإنسان باللغة من الثوابت الموجهة لمسار البحث في تراثنا العربي الإسلامي، فلما كان البعد اللغوي العنصر المحدد في بروز خصوصية الإنسان ضمن الموجودات، فقد تعين النظر في ملابسات ارتباط الإنسان بالكلام من جهتين:
أ- كونية الظاهرة بالنسبة للإنسان .
ب- تهيؤ الإنسان لها (44).
ففيما يخص كونية ظاهرة الكلام في الإنسان فتتجلى في كون الحدث اللساني ملازم للوجود البشري مهما تباعد المكان أو تعاقب الزمان .
وأما تهيؤ الإنسان لها فتتجلى في الاستعداد الخلقي لأداء ما لا تتم الظاهرة اللغوية إلا به ، وهو حدث التصويت والتقطيع، وهو ما يصطلح عليه ابن جني بقابلية النفوس (45) يقول ابن سنان<<لما كانت الطبيعة الإنسانية محتاجة إلى المحاورة لاضطرارها إلى المشاركة والمجاورة، انبعثت إلى اختراع شيء يتوصل به إلى ذلك، ولم يكن أخف من أن يكون فعلا، ولم يكن أخف من أن يكون بالتصويت وخصوصا والصوت لا يثبت ولا يستقر ولا يزدحم، فتكون فيه مع خفته فائدة وجود الإعلام به مع فائدة انصحائه إذ كان مستغنيا عن الدلالة به بعد زوال الحاجة عنه، أو كان يتصور بدلالته بعده، فمالت الطبيعة إلى استعمال الصوت ووفقت من عند الخالق بآلات تقطيع الحروف وتركيبها معا ، ليدل بها على ما في النفس من أثر>>(46) .وإذا كانت تأملات المفكرين العرب قد تحسسوا روابط اللغة بالإنسان على مستوى وجوده الفردي، فإن الفكر اللغوي العربي قد اهتم أيضا بمستوى تحول الظاهرة من الوجود الفردي إلى الوجود الجماعي في المجتمع الإنساني ومن ثم فحصوا مقاصد الكلام وأبعاده باعتباره قيمة جوهرية بين الإنسان ومجتمعه(47) وقد ألح الجاحظ على جعل صيغة الإرتباط بين الإنسان واللغة ارتباطا قارا على محوري النوع والزمن، وهو ما يفسر أن وجود الإنسان متراهن مع تولد الحاجات، وأن سد الحاجات متعذر خارج حدود اللغة، وبذلك جعل الجاحظ <<الحاجة إلى بيان اللسان حاجة دائمة وآكدة وراهنة ثابتة>>(48).
أما ابن جني فقد نبه – وهو بصدد استقراء خاصية الكلام عند الإنسان – إلى التراهن القائم بين وجود الإنسان، وتكامل بعده اللغوي المتمثل في ضرورة سد الحاجة أولا وبالذات حيث يقول:<<وذلك أنهم وزنوا حينئذ أحوالهم وعرفوا مصاير أمورهم ، فعلموا أنهم محتاجون إلى العبارة عن المعاني>>(49).
اما ابن وهب الكاتب وفي سياق بحثه عن علة الحدث اللساني في الوجود، وأسرار الغايات التي يفضي إليها الكلام في الحياة البشرية، فقد أبرز جملة من العناصر التي تؤدي مقاصد الكلام وهي : عموم النفع و كمال النعمة وبلوغ الغاية وحصول المقصد(50).
وعلى هذا النمط من التحليل والاستدلال خلص عبد القاهر إلى نتيجة تجعل من الكلام المحرك لخروج كوامن الانسان وطاقاته من حيز القوة إلى حيز الفعل، إذ لولاه <<لم تكن لتتعدى فوائد العلم عالمه، ولاصح من العاقل أن يفتت عن أزاهير العقل كمائمة، ولتعطلت قوى الخواطر والأفكار عن معانيها، واستوت القضية في موجودها وفانيها… ولكان الإدراك كالذي ينافيه من الأضداد، ولبقيت القلوب مقفلة على ودائعها، والمعاني مسجونة في مواضعها، ولصارت القرائح عن تصرفها معقولة والأذهان عن سلطانها معزولة>>(51).
إن المنهج اللغوي الذي ذكرنا بعض ملامحه عند علماء المسلمين، يعتبر خلاصة تجربة عميقة ظلت خلالها أجيال الباحثين المخلصين ينقبون للتعرف على مقاصد الكلام وفضله وأبعاده، وهم يدركون أن البحث في أسرار اللسان العربي، هو بحث في السليقة اللغوية لهذه الأمة وهو في جوهره<<دراسة لأسرار الإنسان، وتعرفا على أخفى وأغمض ما يختلج في بواطنه من حس وشعور، وأن العناية بالأحوال والكيفيات والتراكيب ليست إلا بحثا في أسرار القلوب والعقول الماثلة في أسرار الكيفيات والتراكيب، وأن المعنى الخفي الغامض والمستكن وراء هذا الحال من أحوال اللفظ العربي، إنما هو تلك الإختلاجة الخفية والغامضة في باطن النفس التي ابدعت هذا التركيب>>(52) وهو ما يحيلنا مباشرة إلى مشكل علاقة الإنسان باللغة في أصل اتصاله بها ثم في مدى انحصاره فيها، وعلى ضوء هذه الثوابت كان فهم الأصوليين للغة على مستوى التنظير، فنزلوها على مقتضى حقيقتها في مستوى التطبيق كما سينضج ذلك من خلال العناصر اللغوية الآتية عند علماء الأصول.
4- حقيقة الخطاب الشرعي:
اذا كان فهم الخطاب الشرعي، هو تحصيل لدلالته الشرعية واستنتاج لها، فإن أول نظر يقوم به الأصولي هو النظر في حقيقة الخطاب ومعناه، والأصولي يجد أن ذلك المعنى هو <<الكلام القائم بذات الله تعالى، وهو صفة قديمة من صفاته>>(53)¯ .
إن مهمة الأصولي لا تقف عند حد تعريف الكلام، واستخراج اقسامه وأنواعه، فهذه من مقدمات عمله، وليست من أهدافه، ففرطه فهم الخطاب لأجل الاستدلال به على الأحكام، ولابد لصحة الاستدلال بالخطاب من معرفة ما يفيده الخطاب. << فالاستدلال بالأدلة يختلف بحسب تجردها عن قرينة، وبحسب اقتران القرائن بها ، والخطاب من الأدلة منه مشترك بين حقيقتين، ومنه غير مشترك، وحقيقة الخطاب قد تكون شرعية، وقد تكون عرفية، والقرائن قد تعدل بالخطاب عن ظاهره، وقد تكون مكملة لظاهره>>(54).
ونكتفي هنا بتعريف أبي الحسين البصري المعتزلي في هذه القضية، ما دام جميع الاصوليين يجعلون قضية التعريف بالخطاب أساسا في نظريتهم اللغوية، إلى الحد الذي جعلهم يرجعون أسباب الخلاف بين الفقهاء في الفروع إلى سببين رئيسيين تعود إليهما سائر الأسباب الأخرى وهما:
أولا : الخلاف في ثبوت النص، وهو خاص بالحديث والرواية.
ثانيا : الخلاف في فهم النص ، بحسب قواعد اللغة وأوضاعها المعروفة، وأن فيه دلالة على هذا الحكم أولا . وهذا يشمل القرآن والحديث في آن معا .
يقول ابن السيد البطليوسي << فإذا رجعنا إلى اختلاف الفقهاء في الأحكام الفقهية وأسبابه … وجدنا أن اختلافهم هذا منه ما يرجع إلى اختلافهم في الأصل الذي بنيت عليه آراؤهم، ومنه ما يرجع إلى اختلافهم في وسائل الفهم والنظر فقط، مع اتحادهم في الأصل الذي رجعوا إليه… فجمع الأحكام المستمدة من القرآن، وإنما يرجع اختلافهم فيها إلى اختلافهم في وسائل فهمه وطرائفه، لا إلى اختلافهم فيه أو في ثبوته، أو في وجوب العمل به>>(55) . وكذلك بالنسبة للأحكام المستمدة من السنة، لا يرجع اختلافهم فيها إلى اختلافهم في السنة من ناحية أنها الأصل الثاني الذي تقوم عليه الأحكام الشرعية، وأنها مبينة للكتاب، وإنما يرجع الإختلاف فيها تارة إلى الإختلاف في فهمها وتارة إلى عدم العلم بها، وتارة إلى عدم وثوق بعضهم بروايتها، على حين وثق بعضهم الآخر بها(56).
وما دمنا نحاول استقصاء أهم الشروط التي وضعها علماء الأصول في نظريتهم اللغوية ، لعملية التواصل الشرعي بصفة خاصة، والتواصل اللغوي بصفة عامة، وما دام قد تحدد لدينا مفهوم أولي للخطاب، نقول إن لهذا التحديد علاقة وطيدة بقضية المعنى، وما لهذه المسألة من آثار في أسباب اختلاف الفقهاء في الفروع، حتى صار منهم المالكي والشافعي والحنبلي والحنفي وغير ذلك، كما كانت سببا في اختلافهم في أصول الإعتقاد، حتى صار منهم الأشعري والمعتزلي والجبري والقدري والمشبه والجهمي، ومن شيعتهم الزيدي والرافضي والاسماعلي وغير ذلك، لقد ادرك علماء الأصول خطورة المعنى، وخطورة قضية استخلاص الدلالة الشرعية من النص الشرعي، فحاولوا الإلمام بأطراف القضية، ومن ثم اتجهت عنايتهم إلى لغة الخطاب، محاولين التعرف على أسرارها في التعبير عن المعاني، حتى يستطيعوا تحديد طريق منضبط يمكن انسحاب الحكم الصحيح عليه في المسائل المعروضة، فانتهوا بعد استقرائهم الدقيق للخطاب إلى تحديد الوجوه التي يرى بها ، وهو ما مكنهم من تحديد أهم الأسباب المؤدية إلى الخلل في فهم مراد الخطاب، والتي لا تخرج في مجملها عن خمسة أسباب في نظر البعض، وثمانية في نظر آخرين، وهي الشروط نفسها التي لا يصح مع عدم معرفتها الاستدلال بالخطاب.
منها : احتمال الاشتراك ، واحتمال النقل بالعرف أو الشرع، واحتمال المجاز، واحتمال الإضمار، واحتمال التخصيص(57).
ونظرا لأهمية الفهم وخطورتها، فإننا وجدنا من القدماء من بلغ بهم الإهتمام، إلى حد تأليف كتب تؤسس لها، ومن هذه الكتب وأهمها (الانصاف في التبيه على المعاني والأسباب التي أوجبت الإختلاف بين المسلمين في آرائهم) لابن السيد البطليوسي الذي يقول: "إن الإختلاف عرض لأهل ملتنا من ثمانية أوجه، كل ضرب من الخلاف متولد منها متفرع عنها: الأول : اشتراك الألفاظ والمعاني . الثاني : الحقيقة والمجاز . الثالث : الإفراد والتركيب . الرابع : الخصوص والعموم . الخامس : الرواية والنقل . السادس : الاجتهاد فيما لا نص فيه . السابع : الناسخ والمنسوخ . الثامن : الإباحة بالتوسع(58). فهذه ثمانية أسباب للاختلاف، وكلها تتعلق بالخطاب، غير أن ما يلاحظ فيها، أنها تنقسم إلى قسمين: الأربعة الأولى منها، عناصر لغوية، والأربعة الأخيرة عناصر غير لغوية، وقد كان لهذه الأسباب آثارها الواضحة في اختلاف الفقهاء، يقول عبد الوهاب السبكي:"الخلاف إما في مسائل مستقلة، أو في فروع مبنية على أصول، والأول ينشأ من أحد أمور . الأول : كون اللفظ مشتركا، وذلك في مسائل، منها (القرء) فهو عند الشافعي رضي الله عنه(الطهر) وعند أبي حنيفة رضي الله عنه (الحيض) ومنها (او) في قوله تعالى(إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض)(59) . قال مالك رضي الله عنه (أو) للتخيير فيفعل السلطان بقاطع الطريق ما يراه من هذه الأمور ، وقال الشافعي وأبو حنيفة للتفصيل والتقسيم، فمن حارب وقتل وأخذ المال، صلب وقتل، ومن قتل ولم يأخذ، قتل، ومن أخذ ولم يقتل ، قطع . الثاني: الحقيقة: كحديث "لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل" . قال الشافعية، لا صيام صحيح، فحقيقة الصيام المفترض عندهم تنتفي بانتفاء نية الليل، وقالت الحنفية: لاصيام كامل، فعدلوا إلى المجاز(60). تعد هذه الأمثلة التي ليست سوى قليل من كثير من الفروع الفقهية المبنية على الإختلاف في تحديد منطلقات فهم الخطاب المتضمن لواحد أو أكثر من هذه الأوجه، من أهم الأسباب الثمانية التي أرجع إليها الأصوليون أن تكون مصدر الخلل في الفهم، ومن أجل هذا الغرض وسعيا من قبل الأصوليين في ضبطهم لهذه العملية، قاموا بوضع سلم تراتبي للقواعد التي قد ترد في الخطاب، مع احتمال إخلالها بالفهم لدى المستنبط، كلما وقع تعارض بينها على الشكل الآتي: إذا وقع التعارض بين الاشتراك والنقل ، فالنقل أولي . إذا وقع التعارض بين الإشتراك والمجاز، فالمجاز أولي . إذا وقع التعارض بين الإشتراك والإضمار ، فالإضمار أولي . إذا وقع التعارض بين الإشتراك والتخصيص، فالتخصيص أولي . إذا وقع التعارض بين النقل والمجاز، فالمجاز أولي . إذا وقع التعارض بين النقل والإضمار ، فالإضمار أولي . إذا وقع التعارض بين النقل والتخصيص ، فالتخصيص أولي . إذا وقع التعارض بين المجاز والاضمار، فهما سواء لأن كل واحد منهما يحتاج إلى قرنية تمنع المخاطب عن فهم الظاهر . إذا وقع التعارض بين المجاز والتخصيص ، فالتخصيص أولي. إذا وقع التعارض بين الإضمار والتخصيص ، فالتخصيص أولي . إذا وقع التعارض بين الإشتراك والنسخ ، فالاشتراك أولي . إذا دار للفظ بين التوطؤ والاشتراك ، فالتواطؤ أولي . إذا وقع التعارض بين أن يكون اللفظ مشتركا بين علمين وبين معنيين ، كان جعله مشتركا بين علمين أولي ، وجعل اللفظ مشتركا بين علمين ومعنى أولى من جعله مشتركا بين معنيين . اللفظ إذا تناول الشيء بجهة الإشتراك وبجهة التواطؤ كان جعله بجهة التواطؤ أولي(61). وتقوم هذه القواعد عند الأصوليين ، على أساس نظرتهم إلى نصوص التشريع ، باعتبارها وحدة متكاملة يبين بعضها بعضا ، أي على أساس أن أحكام التشريع ليست نصوصا لغوية تفهم على أساس من قواعد النحو وأساليب البيان فحسب ، بل هي قبل كل شيء تمثيل إرادة المشرع من التشريع ، ثم إن مقصد المشرع من التشريع ، هو التكليف الذي يجب أن يتجه فيه المكلف إلى أن يكون مقصده في العمل والنتائج متفقا مع مقصد المشرع في التشريع (62)، وقد أشار الى هذه المعنى الإمام الشاطبي بقوله : "إن قصد الشارع من المكلف أن يكون قصده في العمل موافقا لقصد الله في التشريع" (63)، ويقول أيضا " إن القصد غير الشرعي هادم للقصد الشرعي"(64). فالخطاب الشرعي وفق نظر الاصوليين ، هو إسناد قيمة شرعية من مجموعة من القيم (الوجوب والإباحة والخطر والندب والكراهة) إلى فعل المكلف ، فأي استخلاص للدلالة الشرعية من الخطاب يكون ضبطا للقيمة الشرعية التي يسندها النص للفعل الموجه شرعيا ، وتحديدا للعلاقات الدلالية بين القيم الشرعية وصيغها اللغوية . وتظهر قيمة البحث في هذه العناصر في جملة البحوث التي قدمها الأصوليون في مبحث (صيغ التكليف) أو (صيغ الحكم) الذي تناولوا فيه أساسا ، حقيقة قيمتي الوجوب والحظر ، والعلاقات المنطقية بينهما من جهة ، وبينهما وبين صيغها اللغوية من جهة ثانية(65). 5- حقيقة المتكلم والمخاطب : تقوم نظرية الإبلاغ اللغوي عند الأصوليين على أساس قواعد مسطرية، تعد في مجملها مسلمات خطابية لا يصح خطاب بدونها، وقد ناقشنا من جملة هذه الشروط ، معقولية الخطاب، والمبادئ التي يصح معها فهم الخطاب والاستدلال به، وبذلك نكون قد وصلنا في هذا التحليل إلى جزء أساسي لا يقل اهمية عند الأصولي في نظرته للخطاب، وهي الشروط الوجودية المتعلقة بالمتكلم والمخاطب ومقام الخطاب. فالممارسة الكلامية تخضع لقاعدة مسطرية تنتظم بموجبها العلاقة بين المتكلم باعتباره منشئا للخطاب، والمخاطب باعتباره متلقيا للخطاب، أو بعبارة الأصوليين مكلفا بتنفي\ الخطاب. ومن جملة ما يفيده هذا الكلام، أن التواصل الشرعي يعتبر تواصلا لغويا متحققا في مجال الشرع ، وفق شروط وجودية خاصة (66) . فالأصولي متجه بهذا الكلام إلى مخصوصين بالخطاب، وهم المؤتمرون بأوامر الشريعة، والمنتهون بنواهيها، ولهؤلاء في الأصول نعت مخصوص ، فهم "المكلفون" و(التكليف) يتناول (الفعل وأن لا تفعل)(67) وعلى الرغم من اتفاق الأصوليين حول قضية التكليف، إلا أنهم يختلفون حول ماهية التكليف(68). لقد أقام المعتزلة قسمتهم في التكليف على أساس حسن الافعال وقبحها لذاتها، أو للوجوه التي هي عليها، ونصبوا العقل حكما عليها، في حين جعل الأشاعرة ، وعلى رأسهم أمام الحرمين- قسمتهم على أساس تعلق الخطاب بها أمرا ونهيا، فإذا نظرنا في الأفعال من حيث هي مناط التكليف ، وجدناها تنقسم إلى ثلاثة أقسام رئيسية هي : الواجب والمحظور والمباح، ولكل نوع من هذه الأنواع معنى خاص عند كل من المعتزلة والأشاعرة ، وذلك حسب ما تقتضيه المساطر المحددة في الأصول الاعتقادية للمذاهب عند كل منهما . فالواجب عند الأشاعرة ، ما يرد الخطاب السمعي بإيجابه على وجه جازم. والمحظور ما جزم الشرع على تركه . والمباح ما يكون الطرفان فيه على السوية، وبعبارة أخرى" فالحرام هو المقول فيه اتركوه ولا تفعلوه ، والواجب هو المقول فيه افعلوه ولا تتركوه، والمباح هو المقول فيه، ان شئتم فافعلوه وان شئتم فاتركوه، فإن لم يوجد هذا الخطاب من الشارع فلا حكم ، فالعقل لا يحسن ولا يقبح ، ولا يوجب شكر النعم ولا حكم للأفعال قبل ورود الشرع(69). أما المعتزلة وعلى رأسهم القاضي عبد الجبار ، وأبو الحسين البصري فيدهبون إلى أن الواجب، هو الفعل الذي له صفة زائدة على حسنه ويترتب على تركه الذم وهو "ليس لمن قيل له: ( واجب عليه ) الإخلال به على كل حال"(70) والمحظور هو الفعل القبيح الذي يترتب على فعله الذم "والقبح ضربان أحدهما صغير، والآخر كبير ، والصغير هو الذي لا يزيد عقابه وذمه على ثواب فاعله ومدحه ، والكبير هو ما لا يكون لفاعله ثواب أكثر من عقابه ولا مساو له"(71). وأما المباح فهو الفعل الحسن الذي ليست له صفة زائدة على حسنه "ومعنى الإباحة، هو إزالة الحظر والمنع بالزجر والوعد، وغيرهما ممن يتوقع منه المنع"(72). وفي هذا إشارة إلى أن التكليف خاصية من خصائص الخطاب الشرعي دون غيره من الخطابات العادية ، إذ لا يجوز إلا من الله تعالى، أما ما نراه بين الناس من تكليف بعضهم لبعض، فإنماهو على سبيل توخي المصلحة لا على سبيل التكليف . ومن شروط المتكلم (الحاكم) عندهم أن يكون عالما يقبح القبيح وبوجوب الوجوب، ولا يرى المعتزلة مانعا في إطلاق لفظ الوجوب على الله تعالى، لأن أحكام الأفعال لا تختلف في رأيهم بين الشاهد والغائب، كما لم يشترطوا في الأمر أن يكون أمرا بالشيء ناهيا عن ضده، لأن ماهية الخطاب عندهم، الإخبار والاعلام. لقد تسبب هذا القول للمعتزلة في هجوم شديد من قبل خصومهم الأشاعرة الذين لم يشترطوا في المتكلم (الحاكم) إلا أن يكون قادرا لو ابتدأ بالألم لحسن منه(73) ولا شك أن قول المعتزلة بخصوص مامضى يقوم على أساس مسطرة خطابية تقضي بالاعتراف بالنسق اللغوي، ثم إن مقتضى التكليف في الأساس الإعتزالي، هو التعريض للثواب، فهو جوهر ما يؤول إليه الخطاب عندهم ، وما ليس من هذا الباب من الأفعال والتروك، يكون الإنسان مضطرا إليه ، ومن هذا الوجه يختلف جوهر الخطاب الشرعي عن باقي الخطابات غير الشرعية . أما بخصوص الشروط المتعلقة بالمخاطب أو المتلقي للخطاب، فهي لا تختلف كثيرا بين سائر الأصوليين معتزلة كانوا أو أشاعرة ، غير أن المختلف فيه هو يعد هذه الشروط. فإذا اشترطوا العقل، كان له عند المعتزلة عموما وظيفة خاصة، وعند الأشاعرة وظيفة أخرى، وإذا اتفقوا على شرط القدرة ، اختلفوا في طبيعة الأعمال التي تستطيع آداءها . يشترط القاضي عبد الجبار لصحة تكليف المكلف ثلاثة شروط تستهدف تمكينه من فعل ما كلف به ، وهذه الشروط هي : أولا : القدرة على فعل ما كلف به أو تركه ، لأن الفعل إنما يكون بالقدرة بعد الإرادة المتصلة بالدواعي والصوارف، وحتى يكتمل عمل القدرة والتمكين يجب زوال الإلجاء، وهذا ضروري لاثبات تردد كل "الدواعي والصوارف وإثبات الاختيار الذي هو شرط الفعل(74). ثانيا : وجود الآلات التي يحتاج إليها المكلف للفعل، ويعد ه\ا الشرط من كمال القدرة ويتعلق بها، ويعتبر وجود الآلة من باب إزاحة العلة ، كقولك لآخر (ارم إذا وجدت قوسا)(75). ثالثا : أن يكون المكلف عالما بما كلف به ، أو متمكنا من العلم به ، ليستطيع الفعل أو الترك وهذا ما يطلق عليه القاضي عبد الجبار إسم (كمال العقل)، فبكمال العقل يستطيع المكلف تحصيل جملة المعارف، مثل العلم بالأفعال القبيحة والحسنة، وبصفاتها، وبالوجوه التي معها تقع، وكذا العلم بالمكلف وصفاته وحكمته "فجملة العلوم الواجبة على المكلف يتحصل له بعضها بالضرورة، وبعضها الآخر بالنظر والإستدلال، ومن هنا لم يصح تكليف الأطفال ولا الحيوان، لأنه لم يكتمل لديها العقل الصالح بالتكليف"(76) وخلاصة ما ذهبت إليه المعتزلة بخصوص مقتضى التكليف، أن التكليف عقلي وشرعي، والتكليف العقلي سابق على التكليف الشرعي، فالشرع يقوم على العقل، والنظر هو الذي يؤدي إلى معرفة الله وعدله وتوحيده ، ومن ثم نعلم صحة التكاليف الشرعية ويترتب الواجب علينا بفعلها(77). والقول الوجيز عند الأشاعرة "أنه يكلف المتمكن، ويقع التكليف بالممكن، ولا نظر إلى الإستصلاح ونقيضه"(78) فشرط المتلقي للخطاب وفق هذا التعرف ، أن يكون عاقلا فاهما للتكليف ، لأن التكليف خطاب، وخطاب من لا عقل له ولا فهم، محال(79). إن مثل هذه الخلافات ذات الطابع المسطري، كما يقول الدكتور أحمد العلوي، ترجع إلى أساس إطاري صرف" الفرق الاسلامية" فالتي تتصور العلاقة بين الله والانسان قائمة في إطار العقل، تخضع العلاقات القولية إلى العقل، وهذا ما ذهبت إليه المعتزلة، أما الفرق التي تتصور العلاقة بين الله والإنسان قائمة في إطار القدرة، فتخضع تلك العلاقات القولية لمبدإ الإرادة الإلهية، وهي الفرق التي تبدو مساطرها القولية غريبة، لكنها غريبة فقط حينما تنتقل إلى مستوى العلاقة القولية بين البشر، أما في مستوى العلاقة القولية بين الله والإنسان القائمة على الإرادة، فإنها لا تكون غريبة(80). فالقوم الذين ينكرون أن يتعلق الخطاب بالمعدوم على شرط الوجود، كانوا يقصدون عدم جواز الخطاب بدون وجود مخاطب متلق لهذا الخطاب، ثم إن حكم الخطاب الذي هو أمر ونهي، أن يصدق بأمور و منهيات، ولم يكن في الأزل مخاطب معرض لأن يحث على أمر، ويجزر عن آخر، وبذلك استحال في مساطرهم القولية أن يكون المعدوم مأمورا ولو على شرط الوجود ، كما تقرر عند الفرق الأخرى(81). وقد ضربوا لذلك مثالا ، مفاده أن الإنسان إذا أخبره النبي الصادق بأن الله تعالى سيرزقه ولدا، وسيموت قبل ولادته، فإنه ربما قال لبعض الناس إذا أدركت ولدي بالغا فقل له أباك يأمرك بتحصيل العلم، فها هنا قد وجد الأمر ، والمأمور معدوم، حتى إنه لو بقي ذلك الأمر إلى أوان بلوغ ذلك الصبي ، لصار مأمورا بذلك الأمر(82). وإذا كان الأشاعرة ومن سار على نهجهم يخالفون المعتزلة في هذا الترتيب المعرفي، فيقدمون النقل على العقل، ويقدمون التكليف الشرعي على التكليف العقلي، فإن هذا الخلاف وعلى الرغم من أهمية القصوى في الموضوع، فإنه لم يؤد إلى تغاير في نظرة الجميع إلى اللغة التي هي أساس التكليف الشرعي وأداته، مما يجعل أغلب القواعد المسطرية لا تتعدى الطابع الإفتراضي عند الفريقين، وبالخصوص عندما يتعلق الأمر بالخطاب الشرعي واستنباط الأحكام منه . 6- القول الأصولي وقصد المتكلم . يعلق الأصوليون أهمية كبرى على مراد المتكلم، فلا يتحقق التواصل الشرعي إلا إذا تعرف المكلف على قصد المشرع من قوله ، لأن المعقول من قولنا "أنه مخاطب لنا، أنه قد وجه الخطاب نحونا، ولا معنى لذلك إلا أنه قصد إفهامنا"(83). فبالنسبة للخطاب القرآني، يلاحظ أنه لا يمكن الشروع في فهمه إلا إذا تقرر أن المتكلم يريد أن يدل بكلامه القرآني على ما يريد، "فلو أنه تعالى أخفى بعض مراده في بعض ، لكان قد بطل طريق الإستدلال بخطابه على ما يستدل به عليه، والأدلة إذا دلت بطريقة واحدة فالقدح في البعض يقدح في الجميع"(84). يقول ابن تيمية إن "الكلام يدل بقصد المتكلم به وإرادته، وهو يدل على مراده، وهو يدلنا بالكلام على ما أراد، ثم يستدل بإرادته على لوازمها، فإن اللازم مدلول عليه بلزومه"(85) فالكلام قد يحصل من غير قصد فلا يدل، ومع القصد فيدل ويفيد، فكما أن المواضعة لابد منها، فكذلك المقاصد التي بها يصير الكلام مطابقا للمواضعة(86). إن لمعرفة قصد المتكلم عند الأصوليين دخلا كبيرا في توجيه الدلالة، ومحاولة تحديدها مهما اختلفت صورة اللفظ، فالعناية بالدلالة يقصد منها معرفة مراد المتكلم، والهدف من تلك الإرادة ، كما يقول الأصوليون، هو تحقيق أهداف الشريعة الإسلامية، وما ترمي إليه من الحفاظ على الدين والنفس والمال والعقل والنسل(87)، "وإنما اعتبر حال المتكلم لأنه لو تكلم به ولا يعرف المواضعة، أو عرفها ونطق بها على سبيل ما يؤديه الحافظ، أو يحكيه الحاكي، أو يتلقنه المتلقن، أو تكلم به من غير قصد لم يدل، فإذا تكلم به وقصد وجه المواضعة، فلابد من كونه دالا إذا علم من حاله أنه يبين مقاصده، ولا يريد القبيح ولا يفعله، فإذا تكاملت هذه الشروط فلابد من كونه دالا، ومتى لم تتكامل فموضوعه أن لا يدل، وإن كان متى وقع ممن ليس هذا حاله لم يصح أن يستدل به"(88)ومفهوم القصد الذي أورده المعتزلة هنا، على لسان القاضي عبد الجبار ذو أهمية كبرى بالنسبة للإطار الذي ينطلق منه المعتزلة، في محاولة لإعطاء مشروعية دينية لتأويلاتهم للنص القرآني، من حيث إن قصد المتكلم به – الله عز وجل- لا يمكن معرفته إلا بالاستدلال العقلي وحده . وإذا كان المعتزلة قد اكتفوا بالتركيز على قصد المتكلم الذي بدونه لا يقع للكلام دلالة، فإن الأشاعرة – وعلى رأسهم "عبد القاهر الجرجاني" قد جعلوا من هذا المفهوم الأساس في صياغة نظرية للدلالة في الفكر العربي عرفت "بنظرية النظم" وضع فيها قوانين كلية للدلالة على مستوى التركيب، فالتركيب اللغوي لا ينبئ عن مدلوله بمجرد المواضعة ، بل لابد من اعتبار قصد المتكلم، وهي اشارة واضحة إلى ما يحيط عملية الفهم من صعوبة وتعقيد، يقول ابن القيم إن "الدلالة تنقسم إلى حقيقية وإضافية، فالحقيقية تابعة لقصد المتكلم وإرادته، وهذه الدلالة لا تختلف، والإضافية تابعة لفهم السامع وإدراكه، وجودة فكره وقريحته وصفاء ذهنه ومعرفته بالألفاظ ومراتبها، وهذه الدلالة تختلف اختلافا متباينا بحسب تباين السامعين في ذلك "(89). وإذا كان فهم النصوص على مستوى دلالاتها الوضعية الظاهرة أمرا يتفاوت فيه البشر ، فما بالنا بفهم النصوص على مستوى دلالتها الوجودية ، والصعوبة كامنة أولا في فهم الكلام على المستوى الوضعي، كما يقول محي الدين بن عربي بنظرته الصوفية. << إن الإنسان ينطق بالكلام يريد به معنى واحدا مثلا من المعاني التي يتضمنها ذلك الكلام، فإذا فسر بغير مقصود المتكلم من تلك المعاني، فإنما فسر المفسر بعض ما تعطيه قوة اللفظ، وإن كان لم يصب مقصود المتكلم، ألا ترى الصحابة – يقول ابن عربي – كيف شق عليهم قوله تعالى: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم )(90) فأتى به نكرة، فقالوا: وأينا لم يلبس إيمانه بظلم، فهؤلاء الصحابة وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم، ما عرفوا مقصود الحق من الآية، والذي نظروه سائغ في الكلمة غير منكور، فقال لهم النبي e ، ليس الأمر كما ظننتم ، وإنما أراد الله بالظلم هنا، ماقاله لقمان لابنه وهو يعظه (يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ) (91) فقوة الكلمة تعم كل ظلم، وقصد المتكلم إنما هو ظلم مخصوص... ولذلك تتقوى التقاسيم في الكلام بقرائن الأحوال، فإنها المميزة للمعاني المقصودة للمتكلم"(92) فعلى الرغم مما يثيره هذا النص من قضايا تتعلق بنظرة الصوفي للأشياء ، فإن ما يهمنا نحن منه، هو تصويره لعملية الفهم المصاحبة لمجموعة من الصعوبات المرتبطة أولا بالمستنبط أو القارئ، ثانيا بطبيعة النص اللغوي الذي لا يبقى حسب هذه النظرة في حالة ثبات، مادام المدلول في حالة تغير دائم وخلق جديد، وليس هذا الفهم الذي نجده عند ابن عربي وعند الصوفية عموما غريبا، وإنما هو مفهوم ذو صلة وثيقة بعملية الفهم، وإن كان الفارق بين الصوفي وغيره من دارسي النصوص فارق في الدرجة لا في النوع . ومعنى هذا الكلام أن الخطاب الشرعي باعتباره خطابا لغويا يتصف بالانفتاح و "يكون الخطاب مفتوحا إذا احتمل بالنسبة لمخاطب واحد أو مخاطبين وجهين دلاليين مختلفين على الأقل"(93). ويعتبر هذا الإنفتاح مزية لا منقصة كما يقول الجرجاني: "واعلم أنه إذا كان بينا في الشيء أنه لا يحتمل إلا الوجه الذي هو عليه لا يشكل، وحتى لا يحتاج في العلم- بأن ذلك حقه وأنه الصواب- إلى فكر وروية، فلا مزية، وإنما المزيه ويجب الفضل، إذا احتمل في ظاهر الحال غير الوجه الذي جاء عليه وجها آخر"(94) وإذا اعتبرنا المقام محددا أساسا لدلالات الخطاب، بحيث قد يلزم من تغير المقام تغير دلالة الخطاب الواحد وتعديلها على الأقل، فإننا نستطيع تأكيد انفتاح الخطاب الطبيعي بدليل التغير غير النهائي وغير المحدود للمقامات، ويتجلى هذا الإنفتاح على مستوى الألفاظ وعلى مستوى التركيب(95). ولتوضيح عناية الأصوليين بهذا الجانب نورد النص الآتي على لسان ابن القيم "قال الرسول(ص) : (لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان)(96)، إنما كان ذلك لأن الغضب يشوش عليه قلبه وذهنه ، ويمنعه من كمال الفهم ، ويحول بينه وبين استيفاء النظر، يعمي عليه طريق العلم والقصد، فمن قصر النهي على الغضب وحده (وهو المفهوم من ظاهر اللفظ) دون الهم المزعج، والخوف المقلق والجوع والظمإ الشديد ، وشغل القلب المانع من الفهم ، فقد قل فقهه وفهمه ، والتعويل في الحكم على قصد المتكلم، والألفاظ لم تقصد لنفسها وإنما هي مقصودة للمعاني، والتوصل إلى معرفة مراد المتكلم ، ومراده يظهر من عموم لفظه تارة ، ومن عموم المعنى الذي قصده تارة، وقد يكون من المعنى أقوى، وقد يكون من اللفظ أقوى، وقد يتقاربان"(97). فالدليل الكلامي عند الأصوليين ، دليل قصدي، سواء كان لفظا مفردا، أو قولا مركبا، فإذا اجتمع القصد والدلالة القولية أو الفعلية ترتب الحكم، ولهذا ألغى الشارع الألفاظ التي لم يقصد المتكلم معانيها، بل جرت على غير قصد منه، كالنائم ، والناسي والسكران والجاهل والمكره والمخطئ من شدة الفرح أو الغضب أو المرض(98) و<<إلا فنفس استماع اللفظ بدون المعرفة للمتكلم وعادته لا يدل على شيء، إذا كانت دلالتها قصدية إرادية تدل على ما أراد المتكلم أن يدل بها عليه، لا تدل بذاتها فلابد أن يعرف ما يجب أن يريده المتكلم بها، ولذا لا يعلم بالسمع بل بالعقل مع السمع>>(99) .
هكذا كانت تتقلب وجهات نظر الأصوليين حول النص بحثا عن المقاصد، ولعله الباب الذي دخل منه التأويل إلى الدرس الأصولي، فقد اعتمده الأصوليون للتوفيق بين النصوص التي تجمع في ظاهرها بين الإختلاف والتعارض(100) ويظهر ذلك في كتابات الأصوليين منذ الشافعي إلى أن استوى علم أصول الفقه على سوقه ، يقول الشافعي في باب البيان <<فإنما خاطب الله بكتابه العرب بلسانها على ما تعرف من معانيها، وكان مما تعرف من معانيها باتساع لسانها... وأن فطرته أن يخاطب بظاهر يعرف في سياقه أنه يراد به غير ظاهره، فكل هذا موجود علمه في أول الكلام أو وسطه أو آخره، وتبتدئ الشيء من كلامها يبين أول لفظها منه عن آخره، وتبتدئ، الذي يبين آخر لفظها منه عن أوله، وتكلم بالشيء تعرفه بالمعنى دون الإيضاح باللفظ كما تعرف الإشارة، ثم يكون هذا في أعلى كلامها، لانفراد أهل علمها به دون أهل جهالتها"(101). ولابد ونحن نتعقب خصائص النظرية اللغوية الأصولية في عملية الفهم وشروط الإبلاغ اللغوي، من الإشارة إلى أنه وبالإضافة إلى الشروط التي سبق ذكرها، لابد للناظر الممارس لهذه العملية، من التمكن في وسائل فهم الخطاب الشرعي (كتابا وسنة)، ومن هذه الوسائل على الخصوص، اللغة العربية وعلومها لأن لغة القرآن والحديث هي العربية، ثم علوم القرآن وعلوم الحديث، بالإضافة إلى أقوال السلف باعتبارهم أخص القوم بمعرفة (102)الرسول (ص) " أقواله وأفهاله وحركاته وسكناته ومدخله ومخرجه وباطنه وظاهره، وأعلمهم بأصحابه وسيرته وأيامه، وأعظمهم بحثا عن ذلك، وعن نقلته، وأعظمهم تدينا به واتباعا له واقتداء به>>(103) هذا بالإضافة إلى ضرورة استحضار مجموع نصوص الكتاب والسنة لكونها تعبيرا عن إرادة واحدة، وهي إرادة المشرع .
ونظرا لما بين هذه النصوص كذلك من بيان متبادل يقول ابن تيمية إن <<من لا يحفظ القرآن ولا يعرف معاينه، ولايعرف الحديث ولا معاينه، من أين يكون عارفا بالحقائق المأخوذة عن الرسول (ص) >> (104) وهو الرأي نفسه الذي عبر عنه تلميذه ابن القيم حين قال << فالعلم بمراد المتكلم قد يعرف تارة من عموم لفظه، وتارة من عموم علته، والحوالة على الأول أوضح لأرباب الألفاظ وعلى الثاني أوضح لأرباب المعاني والفهم والتدبر،وقد يعرض لكل من الفريقين ما يخل بمعرفة مراد المتكلم، فيعرض لأرباب الألفاظ التقصير بها عن عمومها وهضمها تارة، وتحميلها فوق ما أريد بها تارة، ويعرض لأرباب المعاني فيها نظير ما يعرض لأرباب الألفاظ، فهذه أربع آفات هي منشأ غلط الفريقين>>(105).
وخلاصة القول : إن المنهج اللغوي المعلن عنه من قبل الأصوليين بخصوص عملية الفهم يبقى صالحا، فالشروط المنصوص عليها تبقى أساسية في كل تواصل لغوي ، وفي كل عملية تستهدف الفهم والتأويل، كما تبقى ملزمة عندما يتعلق الأمر بالخطاب الشرعي الذي يكون العلم به مؤسسا على متن العقيدة الإسلامية .
- لذا يبقى الشرط الأول الذي هو الشرط العقدي ضروريا في معالجة النصوص سواء كانت شرعية أو غيرشرعية .
- اما الشرط الثاني فيقتضي ضرورة اعتبار المتن العقدي في كليته ، لأنه تعبير عن إرادة واحدة هي إرادة صاحب النص(106).
هوامش البحث:
(1) سورة الإسراء، الأية :70
(2) سورة البقرة ، الآية29 .
(3) البقرة: الآية 30
(4) فخر الدين قباوة: المهارات اللغوية وعروبة اللسان، ص10 دار الفكر دمشق الطبعة الاولى 1420هـ 1999م.
(5) الغزالي ، المستصفى من علم أصول الفقه ، ص 80 ضبط عبد السلام عبد الشافي دار الكتب العلمية بيروت لبنان الطبعة الأولى 1413 هـ 1993 م .
(6) المستصفى من ص 66 إلى ص 70 .
(7) الشاطبي ، الموافقات في أصول الشريعة 1/149 ، تحقيق عبد الله دراز – المعرفة لبنان بيروت .
(8) السيد أحمد عبد الغفار ، التصور اللغوي عند الأصوليين : ص 113 دار المعرفة الجامعية ، الطبعة الأولى 1401هـ 1981 م .
(9) الأمدي ، الإحكام في أصول الأحكام ، 1/35 ، تحقيق سيد الجميلي ، دار الكتاب العربي الطبعة الثانية 1406هـ – 1986 م.
(10) امام الحرمين : البرهان في أصول الفقه : 1/46 ، تحقيق عبد العظيم الديب دار الأنصار ، القاهرة الطبعة الثانية 1400 هـ .
(11) ابن السراج : تلقيح الألباب على فضائل الإعراب لابن السراج (مخطوط) الورقة 1 .
(12) السيد قطب ، في ظلال القرآن : 5/3144 دار الشروق القاهرة الطبعة العاشرة 1401 هـ ، 1981م.
(13) الأنعام ، الآية 124 .
(14) سورة المائدة ، الآية 48 .
(15) سورة الشعراء ، الآية : 193 – 195 .
(15) سورة الزمر ، الاية 28 .
(16) سورة الزخرف ، الآية : 3 .
(17) سورة، فصلت: الاية: 3.
(18) سورة الرحمان ، الأية:1-4
(19) طالب عبد الرحمان ، نحو تقويم جديد للكتابة العربية ص 18-19 – كتاب الأمة ، ع 69 السنة 19 المحرم 1420هـ
(20) نحو تقويم جديد للكتابة العربية ص 22 .
(21) الثعالبي ، فقه اللغة العربية وسر العربية : ص 2 ، طبعة 1993 دار الكتاب العربي .
(22) ان التفكير اللغوي لا يوجد مستقلا بذاته ومضامنه، بل هو موزع ومقسم بين الدراسات العربية المختلفة ، ومتداخل مع كثير منها مما يجعل من الصعب عزله ودراسته … (محمد الديباجي التفكير اللغوي عند عبد القاهر الجرجاني)،ص : 29 .
(23) الآمدي ، الإحكام في أصول الأحكام : 1/9 .
(24) الشافعي ، الرسالة :51 تحقيق أحمد شاكر مكتبة دار التراث القاهرة، مصر.
(25) علي حسن العماري، الفنون البلاغية في بيان أبي عثمان مجلة البحث العلمي والتراث الإسلامي ع 5 عام 1402 ص 211 عن الفكر الأصولي لعبد الوهاب أبو سليمان ص 24 .
(26) كمثال على تداخل اللغوي بالشرعي قول الجرمي ( أنا منذ ثلاثين سنة أفتي الناس من كتاب سيبويه ، والمراد بذلك أن سيبويه وإن تكلم في النحو فقد نبه في كلامه على مقاصد العرب وأنحاء تصرفاتها في ألفاظها ومعانيها، ولم يقتصر فيه على بيان أن الفاعل مرفوع والمفعول منصوب ونحو ذلك، بل هو يبين في كل باب ما يفيد فيه، حتى إنه احتوى على المعاني والبيان ووجوه تصرفات الألفاظ والمعاني ( الموافقات ، الشاطبي : 4/116 ) .
(28) عبد الحكيم راضي، نظرية اللغة في النقد العربي ص:62 مكتبة الخانجي، مصر 1950 م.
(29) الآمدي ، الإحكام في أصول الإحكام 1/16-17 .
(30) عبد الحكيم راضي، نظرية اللغة في النقد العربي : ص 64 .
(31) ابن حزم ، الإحكام في أصول الأحكام: 3/39، مكتبة الخانجي الطبعة الأولى 1345هـ.
(32) السكاكي، مفتاح العلوم: ص4 ، الطبعة الأولى مصطفى البابي وأولاده بمصر 1356-1937 هـ .
(33) ابن جني ، الخصائص: 1/17 . تحقيق محمد النجار القاهرة مطبعة دار الكتب المصرية 1952 – 1956 .
(34) ابن سنان الخفاجي ، سر الفصاحة : ص33 شرح وتصحيح عبد المتعال الصعيدي مطبعة محمد علي صبيح، القاهرة 1389هـ – 1969م .
(35) الخصائص : 1/33 .
(36) ابن سنان : سر الفصاحة : ص 39 .
(37) السيوطي ، الزهر : 1/8 تحقيق محمد أحمد جواد المولى وآخرون دار احياء الكتب العربية القاهرة.
(38) ابن خلدون، المقدمة ص: 603 دار الجيل بيروت لبنان.
(39) عبد السلام المسدي ، التفكير اللساني في الحضارة العربية: 148 ، الدار العربية للكتاب ليبيا تونس ، 1981م .
(40) ابن خلدون : المقدمة ، 613 ، دار الجيل بيروت .
(41) عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز : 418 محمود شاكر مكتبة الخانجي القاهرة الطبعة الثانية 1410 - هـ 1989 م .
(42) محمد دنياجي ، التفكير اللغوي عند عبد القاهر الجرجاني، قراءة في اللغة ولغة الخطاب: 158.
(43) دلائل الإعجاز : 315 – 316 .
(44) عبد السلام المسدي : التفكير اللساني في الحضارة العربية : ص 48 .
(45) التفكير اللساني في الحضارة العربية : ص 49 .
(46) ابن سنا، كتاب العبارة ص2 نقلا عن عبد الحكيم راضي: نظرية اللغة في النقد العربي ص: 62 .
(47) التفكير اللساني في الحضارة العربية ، ص: 50 .
(48) الجاحظ ، الحيوان : 1/48 تحقيق وشرح عبد السلام هارون مكتبة مصطفى البابي الحلبي ، الطبعة الأولى . 1357 هـ .
(49) ابن جني الخصائص : 2/30 .
(50) ابن وهب الكاتب، البرهان في وجوه البيان: ص66 تحقيق أحمد مطلوب وخديجة الحديثي بغداد الطبعة الأولى 1967م .
(51) عبد القاهرالجرجاني، أسرار البلاغة: ص1 تصحيح محمد عبده طبعة المنار القاهرة.
(52) محمد أبو موسى، دلالات التراكيب، دراسة بلاغية: ص 25، دار التضامن مكتبة وهبة، الطبعة الثانية 1408 هـ – 1978م .
(53) الغزالي ، المستصفى ص 80 .
¯ الكلام عند المعتزلة غير هذا، فهو عندهم من فعل الله وبذلك فهو محدث.
(54) ابو الحسين البصري ، المعتمد في أصول الفقه: 2/342. تحقيق الشيخ خليل اليس دار الكتب العلمية ، بيروت لبنان الطبعة الأولى 1403هـ 1983).
(55) ابن السيد البطليوسي، الانصاف في التنبيه على المعاني والأسباب التي أوجبت الاختلاف بين المسلمين في آرائهم: ص:15 ، تحقيق محمد رضوان الداية، دار الفكر دمشق سورية الطبعة الثالثة : 1407هـ - 1987م .
(56) الانصاف : ص:15 -16 .
(57) الرازي . المحصول في علم أصول الفقه: 1/351. وتاج الدين السبكي ، الابهاج في شرح المنهاج:1/322
(58) ابن السيد البطليوسي ، الانصاف : 33 .
(59) سورة ، المائدة ، الآية : 33 .
(60) الرازي : المحصول في علم أصول الفقه: 1/325 ، تحقيق طه جابر فياض العلواني ، مؤسسة الرسالة ، الطبعة الثانية: 1412ه\ 1992م .
(61) الرازي ، المحصول : 1/352 إلى 362 وتاج الدين السبكي ، الإبهاج 1/322 الى 336 مطبعة التوفيق الأدبية القاهرة .
(62) فتحي الدريني ، المناهج الأصولية : 27 دار الرشيد للطباعة والنشر الطبعة الأولى ، دمشق 1975 م .
(63) الشاطبي ، الموافقات : 2/331 .
(64) الموافقات : 3/237 .
(65) حمو النقاري ، المنهجية الأصولية ، 134 الشركة المغربية ولادة، الدار البيضاء، المغرب الطبعة الاولى،1411ه-1991م
(66) المنهجية الأصولية : 24 .
(67) القاضي عبد الجبار ، المحيط بالتكليف : 12 تحقيق عمر السيد عزمي، الدار المصرية للتأليف والترجمة .
(68) إمام الحرمين ، البرهان في أصول الفقه : 1/101 وما بعدها .
(69) الغزالي ، المستصفى : 54 .
(70) أبو الحسين البصري ، المعتمد في أصول الفقه 1/339 .
(71) المعتمد في أصول الفقه 1/335 والقاضي عبد الجبار ، المغني في أبواب التوحيد والعدل : 6/73 .
(72) المعتمد في أصول الفقه : 1/337 .
(73) الشهرستاني : نهاية الإقدام في علم الكلام : 300 وما بعدها ، تصحيح الفرد فيوم مكتبة المثنى ببغداد .
(74) القاضي عبد الجبار، المغني في أبواب التوحيد والعدل: 2/283 تحقيق إبراهيم الأبياري .
(75) المغني في أبواب التوحيد والعدل : 2/257 .
(76) القاضي عبد الجبار ، متشابه القرآن : ص 95 .
(77) عبد الكريم عثمان ، نظرية التكليف : 23 .
(78) امام الحرمين ، البرهان في أصول الفقه: 1/105 .
(79) الآمدي ، الإحكام في أصول الأحكام 1/215 .
(1) أحمد العلوي ، الطبيعة والتمثال: ص 212 الشركة المغربية للناشرين المتحدين مطبعة المعارف الجديدة ، الرباط 1988 م .
(80) الماكلاتي : لباب العقول : ص 276 ، تحقيق فوقية حسين محمود ، دار الأنصاري القاهرة ، مصر الطبعة الأولى 1977م .
(81) الرازي ، محصل أفكار المتقمين : ص 133 ، الطبعة الحسينية المصرية ، الطبعة الأولى .
(82) ابو الحسين البصري ، المعتمد في أصول الفقه : 1/316 .
(83) أحمد العلوي ، الطبيعة والتمثال : 210 .
(84) ابن تيمية ، كتاب النبوات : ص 266 – 267 .
(85) القاضي عبد الجبار ، المغني في أبواب التوحيد والعدل : 15/162 .
(86) الشاطبي ، الموافقات : 2/8 وما بعدها .
(87) المغني في أبواب التوحيد والعدل: 16/347 ، تحقيق أمين الخولي، القاهرة : 1965م .
(88) ابن القيم الجوزية ، اعلام الموقعين : 1/305 ، ادارة الطباعة المنيرية القاهرة .
(90) سورة الانعام ، الآية : 82 .
(91) سورة لقمان ، الآية : 12 .
(92) محي الدين بن عربي ، الفتوحات المكية 1/135 – 136 .
(93) حمو النقاري ، المنهجية الأصولية : 28 .
(94) عبد القاهر الجرجاني ، دلائل الإعجاز : 221 .
(95) حمو النقاري ، المنهجية الأصولية : 29 .
(96) النسائي 8/209 ( باب ذكر ما ينبغي للحاكم أن يتجنبه) .
(97) ابن القيم الجوزية ، اعلام الموقعين : 1/188 .
(98) اعلام الموقعين 3/137 .
(99) ابن تيمية ، مجموعة فتاوي ابن تيمية : 20/496 .
(100) السيد أحمد عبد الغفار ، التصور اللغوي عند الأصوليين : 117 .
(101) االشافعي ، الرسالة : 52 .
(102) حمو النقاري ، المنهجية الأصولية : ص 97 .
(103) ابن تيمية : نقض المنطق : 71 ، تحقيق محمد حمزة وسليمان الصنيع الطبعة الأولى 1370 هـ .
(104نقض المنطق : 71 .
(105) ابن القيم ، ، اعلام الموق 1/219 .عين : 1/219 .
(106) حمو النقاري ، المنهجية الأصولية : 98 .
تـقديــم :
إن نظرة بسيطة في واقع اللغة العربية اليوم ، وما آلت إليه في تصور المتكلمين بها، تلزم الباحث للقيام بتشخيص دقيق ووصف امين لجملة من القضايا المرتبطة بواقع اللغة في علاقتها بمتكلميها، وفي ذلك إجابة عن بعض الأسئلة التي أصبحت تقض مضجع الأمة وتهز كيانها ، ومن ضمنها تحديد نوعية العلاقة الموجودة بين اللغة العربية والعلوم الشرعية ، وكذا تحديد علاقة اللغة بالمقاصد بصفة عامة، والمقاصد الشرعية بصفة خاصة ، في وقت سيطرت فيه النزعات الاستشراقية في بلاد العرب، وكثر فيه الحديث عن موقع اللغة العربية في عصر ( العولمة ) ، خصوصا وقد اصبح المتكلم بها، وكذا المتكلم عنها غريبا ترقبه العيون شزرا وتتلقاه الوجوه بالإمتعاض، وليس هذا فقط عند الجاهلين بما تؤول إليه هذه النظرة وما يترتب عنها من مفاسد وأضرار، بل حتى عند المتخصصين الذين يفترض فيهم التنبيه الى خطورة تخلي أمة من الأمم عن لغتها .
فاللغة العربية رمز الحضارة الإسلامية ، وقلبها النابض ووسيلة ابنائها للتدوين والتواصل ، وقد استطاعت بفضل ما لها من خصائص البقاء التي تستمدها من كونها لغة القرآن الكريم وحاملة رسالة الإسلام أن تستوعب كل ما أفرزته الحضارات الأخرى في مجالات الحياة كافة .
إن هذا الارتباط الوثيق بين اللغة والعقيدة، سمة تفردت به الحضارة الإسلامية مما جعل اللغة محل استهداف اعداء هذه الحضارة ، الذين يرمون إلى تقويض العقيدة الإسلامية في النفوس، بهدم اللغة العربية، لاعتبارها سياج هويتها ووعاء ثقافتها وفكرها، فإذا كنا نعلم بأن الله تعالى كرم الإنسان باختياره له من دون مخلوقاته ليسخلفه في الأرض حيث قال تعالى ﴿ ولقد كرمنا بني آدم ﴾(1) و قوله تعالى : ﴿وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة﴾(2) ثم زوده باللغة ليضطلع بمسؤوليات الخلافة حيث قال تعالى ﴿ وعلم آدم الأسماء كلها﴾ (3) ويسر له السبل بأن جعله متكلما بلسان عربي مبين، فشرفه تعالى بجعل لغته لغة كتابه ونبيه المرسل r .فإننا مطالبون بمتابعة البحث في اللغة العربية << حفاظا على هذه المنحة الربانية، ورعاية للمهارات التي تحيط بها،خطابا وتلقيا وكتابة وتعليما واداء للعلم والمعارف>>(4).
وفي هذا الإطار ياتي هذا البحث متتبعا للفكرة المقاصدية من عربية القرآن الكريم من خلال محورين أساسيين يجعلان في الاعتبار التلازم الموجود بين اللغة والعقيدة كمنطلق للتحليل من خلال نموذج الأصوليين ، إذ من المعلوم ، أن العملية التواصلية لابد من أن تتم وفق شروط محددة وقوانين دقيقة يستلزم بعضها البعض الآخر ، فكان لابد من النظر في هذه الشروط وكذا في هذه الأركان وفق ما يقتضيه نظر الأصوليين لها . يقول الغزالي : " إن أصل الأحكام واحد وهو قول الله تعالى "(5)ثم إن القرآن الذي هو قول الله خطاب ، المتكلم فيه هو الشرع ، والمتلقي للخطاب هو المكلف ، ومضمون الخطاب هو الكلام ، والكلام في قسمة الأصولي ، أمر ونهي وخبر واستخبار ، والكلام من حيث هو أحكام ، أمر ونهي ، والحكم هو خطاب الشرع إذا تعلق بأفعال المكلفين .
ولما كان التكليف وفهم التكليف ، والعمل بالتكليف ، قضايا إبلاغه وتواصلية خاصة ، تتم عبر اللغة الطبيعية ، كان الإبلاغ والتواصل الشرعي ينتمي الى جنس أعم هو الإبلاغ والتواصل اللغوي ، وبذلك لابد للعملية التواصلية في نظر الأصوليين من عدة أركان نجملها في المسائل الآتية .
• الركن الأول : الخطاب ـ وهو نفس الحكم .
• الركن الثاني : الحاكم ، وهو المخاطب ، فالحكم خطاب وكلام ، فاعله كل متكلم .
• الركن الثالث : المحكوم عليه ، وهو المكلف او المخاطب ، وشرطه أن يكون عاقلا يفهم الخطاب ، فلا يصح خطاب الجماد والبهيمة، ولا خطاب المجنون والصبي ، لأن التكليف مقتضاه الطاعة وقصد الامتثال ، وشرط القصد العلم بالمقصود والفهم للتكليف
- الركن الرابع : أن يكون بحيث يصح إرادة إيقاعه طاعة وهو اكثر العبادات (6)
فكل اخلال بركن من هذه الأركان يفسد العملية ، ويجعلها كما يقول الشاطبي " في الشرع بمثابة حركات العجماوات والجمادات "(7).
وبالنظر إلى القول أعلاه يتبين أن الأصوليين لم ينظروا للخطاب مجردا عن صاحبه وعن متلقيه، وعن وجوه العلاقة بين صاحب الخطاب والمخاطب ، بل نظروا إليه كمما يتداول طبيعيا ، ومن ثم لزمهم الاعتناء بشروط تحققه طبيعيا ، من وجود المخاطب (الحاكم) والمخاطب (المكلف) ، ومعرفة المكلف لمقاصد المخاطب وكذا وجود قضية أو فعل يكون مناط التكليف .
وتعد هذه القواعد في مجملها حدودا تجنب المستنبط الوقوع في الزلل فيما يتصدى له من وقائع يضع لها حكما أو يطبق عليها حكما ، ومن هنا وجه الأصوليون عنايتهم إلى معرفة قصد المتكلم وتحديد مراده وأفردوا لذلك أبوابا في بحوثهم تناولوا فيه قصد الشارع وقصد المكلف ( وهو قصد الخطاب في عمومه) مما ينبئ بخطورة المسألة ودقتها في تقرير الحكم(8)، فالوقوف عند حرفية النص ، منهج لا يتفق مع طبيعة التشريع ذاته ، لذا كان الإعتناء بالألفاظ والمعاني طرفا أساسيا للحديث في أصول الفقه ، وهو اعتناء لا ينحصر في قضية لغوية واحدة ، ولا في التمييز بين الألفاظ الشرعية واللغوية والعرفية ، أو الحقيقية والمجازية ،إلى غير ذلك من المقدمات التي تتصدر كتب الأصوليين ، بل يتجاوزه ليكون خوصا في ما تؤديه هذه الألفاظ من معان ودلالات ، إفرادا وتركيبا ، وليس معنى هذا الكلام أن الأصوليين ، كما قد يظن الكثير – لا يعطون النص بقطع النظر عن قائله أي دور في الدلالة والمعرفة ، بل إن النص عندهم لا يدل إلا بعد معرفة قائله ومعرفة قصده ، فإذا كانت الدلالة الحقيقية تابعة لقصد المتكلم وإرادته ، فإنه لابد للكشف عن المعنى من معرفة قصد المتكلم بالقرائن المختلفة وذلك لأن دلالات الألفاظ كما يقول الأمدي <<ليست لذواتها بل هي تابعة لقصد المتكلم وإرادته>>(9).
لقد كان هذا أيضا منهج علماء الحديث الذين تحددت مصداقية النص عندهم تبعا لصدق رجال السند من ناحية ، وتبعا لدرجة اتصال السند أو انقطاعه من ناحية أخرى ، وهذا إن دل على شيء إنما يدل على أهمية القضايا اللغوية في الخطاب الأصولي النابع من كون الشريعة التي هي موضوع النظر عربية .
1- مقصدية عربية القرآن الكريم :
شكل نزول القرآن الكريم – بلغة العرب – عاملا مهما في ارتباط العلوم اللغوية بالعلوم الشرعية، فنشأت مترابطة متداخلة يصعب معها الإحاطة بواحدة منها دون الأخرى ، وذلك لكون القرآن الكريم والسنة النبوية اللذين هما مدار التكليف واردان باللغة العربة، ومن ثم وجبت معرفة أساليبها والووقوف على مقصوديهما في الجمل والعبارات لاستنباط حكم صحيح لأن <<معظم الكلام في الأصول يتعلق بالألفاظ والمعاني ، ولن يستكمل المرء خلال الاستقلال بالنظر ما لم يكن ريانا من النحو واللغة>>(10)، يقول ابن السراج موضحا هذا الكلام <<فإن الواجب على كل من عرف أنه مخاطب بالتنزيل ومأمور بفهم كلام الرسول غير معذور في الجهل بمعناهما ولا مسامح في ترك العمل بمقتضاهما ، أن يتقدم فيتعلم اللسان الذي أنزل الله به القرآن حتى يفهم كلام الله وحديث رسول الله r ، إذ لا سبيل لفهمهما دون معرفة الإعراب وتمييز الخطإ من الصواب ، لأن الإعراب إنما وضع للفرق بين المعاني … فلو ذهب الإعراب لاختلطت المعاني ولم يتميز بعضها من بعض ، وتعذر على المخاطب فهم ما أريد منه ، فوجب لذلك فهم هذا العلم إذ هو من أوكد أسباب الفهم فأعرف ذلك ولا تجد غنى عنه>>(11) ، ويزداد هذا الإرتباط توطدا وأهمية في الآيات القرآنية التي تؤكد على عربية القرآن واختيار هذا اللسان لحمله إلى أفطار الارض جميعا، وقد كانت اللغة كأصحابها وبينتها أصلح ما تكون لهذا الحدث الكوني العظيم .
<<وهكذا تبدو سلسلة طويلة من الموافقات المختارة لهذه الرسالة (الإسلام) حيثما وجه الباحث نظره إلى تدبر حكمة الله واختياره>>(12) ، ومصداق قوله تعالى : <<الله أعلم حيث يجعل رسالته>>(13).
فإذا حق لنا أن نقول إن القرآن الكريم جاء مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه مصداقا لقوله تعالى : <<وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه>>(14) فإن لغة التنزيل التي هي جزء منه قد اكتسبت خصائص الهيمنة نفسها ، بالنسبة لسائر اللغات وأوعية التفكير ووسائل التعبير والتغيير والتواصل يقول تعالى: <<نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين >>(15)، وقوله تعالى :<<قرآنا عربيا غير ذي عوج>>(16) وقوله تعالى : <<إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون>>(17) وقوله تعالى<<كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعقلون>>(18).
إن هذه الحروف الأبجدية تلفت النظر العقلي إلى أن آي القرآن مصوغ من هذه الحروف التي يستعملها العرب في معهودهم للخطاب، وما لهذا الإختيار من أبعاد ودلالات تدل على وجود الإمكانية والقدرة للقيام بالمهمة وحمل الأمانة وأداء البيان على طول خطي الزمان والمكان ، مع كل ما يتطلبه ذلك من عناصر للصمود والتحدي ، مصداقا لقوله تعالى:<<الرحمان علم القران خلق الإنسان علمه البيان>>(19)ولذلك اعتبرت اللغة العربية المقوم الأساس في بناء الأمة وقيامها ، لأنها لغة التواصل والاتصال والصياغة لكل الأفكار(20) <<وليس ذلك فحسب ، وإنما هي المدخل الأخطر لبعثرة الأمة ، والعبث بتراثها وتاريخها وذاكرتها ، وعزلها عن تجاربها وماضيها وقيمها وشخصيتها الحضارية، وحاولة تشكيلها من جديد في إطار معطيات لغة أخرى … لذلك كان عزل اللغة والتهوين من شأنها من أخطر مداخل الغزو الفكري والارتهان الثقافي>>(21) . إن الصلة بين ما هو لغوي وما هو شرعي لا يخلو منه مؤلف من مؤلفات القدماء إلا وينبه إليه يقول الثعالبي: <<والعربية خير اللغات والألسنة والإقبال على تفهمها من الديانة ، إذ هي أداة العلم ومقتاح التفقه في الدين وسبب إصلاح المعاش … ولو لم يكن في الإحاطة بخصائصها والوقوف على مجاريها وتصاريفها والتبحر في جلائلها ودقائقها إلا قوة اليقين في معرفة إعجاز القرآن وزيادة البصيرة في إثبات النبوة الذي هو عمدة الإيمان لكفى بها فضلا يحسن أثره ويطيب في الدارين ثمره>>(22).
وهكذا كانت اللغة العربية منذ نشأة البحث فيها أداة أساسية من أدوات الدرس اللغوي والشرعي، فارتكزت عليها جهود علماء المسلمين كالمفسرين والأصوليين والفقهاء وعلماء الكلام فضلا عن علماء اللغة(23) وذلك <<لتوقف معرفة دلالات الأدلة اللفظية من الكتاب والسنة، وأقوال أهل الحل والعقد من الأمة على معرفة موضوعاها لغة ، من جهة الحقيقة والمجاز والعموم والخصوص والحذف والإضمار والمنطوق والمفهوم، والإقتضاء والإشارة والتنبيه والإيماء وغيره ، مما لا يعرف في غير علم العربية>>(24) وتزداد هذه العلاقة وضوحا عند حديث الإمام الشافعي في الرسالة ، وهو بصدد الكلام عن المنهج الذي اختطه ليكون دليلا لتأسيس فهم صحيح للنصوص حيث قال : <<وإنما بدأت بما وضعت من أن القرآن نزل بلسان العرب دون غيره ، لأنه لا يعلم من إيضاح جمل علم الكتاب أحد جهل سعة لسان العرب وكثرة وجوهه وجماع معاينه وتفرقها ، ومن علمه انتفت عنه الشبه التي دخلت على من جهل لسانها>>(25).
يظهر من خلال الرسالة أن الإمام الشافعي كان يربط بين عملية فهم الكلام الإلهي ومعرفة اللغة العربية ، وهو ربط يرجع بالأساس إلى أن الدليل السمعي الذي يجب فهمه ، يتقدم إلى المتلقي عبر اللغة العربية ، ولم يكن الشافعي الوحيد الذي أكد على هذا الربط كشرط في فهم النصوص ، فهذا الجاحظ يقول: <<فللعرب أمثال واشتقاقات وابنية وموضع كلام ، يدل عندهم على معانيهم وإرادتهم، ولتلك الألفاظ مواضع آخر، ولها حينئذ دلالات أخر ، فمن لم يعرفها جهل تأويل الكتاب والسنة والمثل، فإذا نظر في الكلام وفي ضروب من العلم ، وليس هو من أهل هذا الشأن هلك وأهلك>>(26).
لقد برهنت هذه النصوص على دقة نظر الأصوليين في تحديد أهدافهم ووضوح نظرهم لأنهم قوم لا يهتمون فقط بالمعنى الواضح الذي يستفاد من النص لأنه المعنى الأول ، وقد لا يكون مرادا للمشرع ، والشريعة ليست مجرد ألفاظ لغوية أو جملا وعبارات منظومة وإنما هي قبل كل شيء دلالات ومفاهيم تجسد روح التشريع ومقاصده، لذا لم تكن نظرتهم في فهم النصوص واستخلاص الدلالة مقصورة على قواعد اللغة وحدها، بل كان اهتمامهم متجها نحو الإعتماد على كل ما من شأنه ضبط الدلالة اللغوية، سواء تعلق الأمر بالبنيات اللغوية أو السياقية عامة أو خاصة(27).
2) مقصدية الدليل الكلامي :
من المسائل المسلم بها في تراثنا العرب الإسلامي ، اعتبار الدليل الكلامي دليلا قصديا، وهو ما يميز الفكر اللغوي عند العرب والمسلمين بميزة تداولية أصيلة تربط الخطاب بمرسله ومتلقيه، وهي نظرة تجعل من اللغة انجازا فعليا واقعيا، وليست بنية مبتورة عن سياقها التواصلي، وحسبنا نسجل بهذا الخصوص تأكيد علماء العرب والمسلمين على المقصدية في الكلام، لأن اللغة إنما وضعت ليستفاد منها غرضها الذي وضعت له، وهو إقدار المتكلمين على التفاهم، ومعرفة بعضهم حاجات بعض، وقد ناقش الأصوليون هذه المسألة ضمن حديثهم عن الحكمة الداعية إلى وضع اللغة(28) . يقول الآمدي <<لما كان كل واحد لا يستقل بتحصيل معارفه بنفسه وحده دون معين ومساعد له من نوعه… دعت الحاجة إلى نصب دلائل يتوصل بها كل إلى معرفة ما في ضمير الآخر من المعلومات المعينة له في تحقيق غرضه، ولذلك استخدم الإنسان ما يتركب من المقاطع الصوتية، التي خص بها نوع الإنسان، دون سائر أنواع الحيوان، عناية من الله تعالى به… ومن اختلاف تركيبات المقاطع الصوتية، حدثت الدلائل الكلامية والعبارات اللغوية.>>(29).
فاللغة هي الوسيلة الوحيدة لقضاء حوائج البشر والتفاهم بينهم وهي الوسيلة الأكثر طواعية لأنها وجدت استعدادا طبيعيا في الإنسان، الأمر الذي مكنه من استخدامها بشكل تلقائي(30) وقد تبع حديثهم عن هذه الوظيفة وما تستوجبه من مقتضيات ، الحديث عن ضرورة الوضوح في الكلام حتى لا يحتاج إلى تخريج باطن يقول ابن حزم في الرد على أصحاب التأويل الباطن<<وقد علم كل ذي عقل أن اللغات إنما رتبها الله عز وجل ليقع بها البيان، واللغات ليست شيئا غير الألفاظ المركبة على المعاني، المبينة عن مسمياتها … فإذا لم يكن الكلام مبينا عن معاينه فأي شيء يفهم هؤلاء … عن ربهم تعالى، وعن نبيهم r ؟ بل بأي شيء يفهم به بعضهم بعضا>>(31).
وهذا ما تؤكده تعريفاتهم للكلمة والكلام واللغة . فصارت الكلمة هي<<اللفظة الموضوعة للمعنى مفردة، والمراد بالإفراد أنها بمجموعها وضعت لذلك المعنى دفعة واحدة>>(32).
أما الكلام فهو : <<كل لفظ مستقل بنفسه مفيد لمعناه ، وهو الذي يسميه النحويون الجمل>>(33)وهو عند ابن سنان الخفاجي ما <<يتعلق بالمعاني والفوائد بالمواضعة>>(34) وأما اللغة فهي عند ابن جني <<أصوات يعبربها كل قوم عن أغراضهم>>(35) وهي عند ابن سنان الخفاجي<<عبارة عما يتواضع القوم عليه من الكلام>>(36) وهي عند الأسنوي <<عبارة عن الألفاظ الموضوعة للمعاني>>(37). أما عند ابن خلدون فهي <<عبارة المتكلم عن مقصوده ، وتلك العبارة فعل لساني ، فلابد أن تصير ملكة متقررة في العضو الفاعل لها ، وهو اللسان في كل أمة بحسب اصطلاحاتهم>>(38).
إن أهم ما يميز هذه التعريفات، هو الحضور اللازم لمتصور القصد في تنزله ضمن محركات الحدث اللساني الكامن وراء قانون المواضعة، وبذلك يصبح متعلقا بمفهومين ملابسين له في حقله الدلالي وفي اقتضائه التصوري ، وهما مفهوم الإرادة ومفهوم الاعتقاد وينصبان معا في مبدإ النية كمتصور تشريعي، فلا نتحدث عن ضرورة القصد في عملية التخاطب والإبلاغ إلا ونعني قيام هذه الجملة من الشروط الفرعية معه (39) وهذا ما يدل دلالة واضحة على أن حذف اللغة ليس مرتبطا باللغة ذاتها بل بمستوى الإنجاز والاستعمال ، وبذلك تأخذ اللغة بعدها الحقيقي في العملية التواصلية التي لابد فيها من الالتزام بنظام اللغة ، مع استحضار السياق أو المقام التواصلي ، مع حسن التقدير في الإلقاء والتلقي، يقول ابن خلدون <<إعلم أن اللغات كلها ملكات شبيهة بالصناعة، إذ هي ملكات في اللسان للعبارة عن المعاني ، وجودتها وقصورها . بحسب تمام الملكة أو نقصانها، وليس ذلك بالنظر إلى المفردات ، وإنما هو بالنظر إلى التركيب، فإذا حصلت الملكة التامة في تركيب الألفاظ المفردة للتعبير بها عن المعاني المقصودة ومراعاة التأليف الذي يطبق الكلام على مقتضى الحال، بلغ المتكلم حينئذ الغاية من إفادة مقصوده للسامع>>(40) . أما عبد القاهر الجرجاني فقد عد شخص المتكلم شرطا ترتد إليه اللغة في ظاهرة الكلام وإنجاز الخطاب ، مادامت اللغة مجرد رموز وسمات معبرة عن قصد صاحبها يقول: <<وإذ قد ثبت أن الخبر وسائر معاني الكلام، معان ينشئها الإنسان في نفسه، ويصرفها في فكره ويناجي بها قلبه، ويرجع فيها إليه، فاعلم أن الفائدة في العلم بها واقعة من المنشئ لها صادرة عن القاصد إليها>>(41) .
ويرى عبد القاهر تبعا لذلك أن مستويات العملية اللغوية لا تقوم إلا على :
1- القصد إلى الاخبار بمعنى .
2- تعليق معنى كلمة بمعنى كلمة أخرى .
3- اعلام السامع بالخبر عن طريق تعليق الكلمات، لا عن طريق الكلمة المفردة ,.
4- ضرورة وجود ألفاظ ورموزمتواضع عليها، يكون العلم بمعناها مشتركا بين المتكلم والسامع(42) يقول عبد القاهر الجرجاني . <<وليت شعري كيف يتصور قصد منك إلى معنى كلمة دون أن تريد تعليقها بمعنى كلمة أخرى، ومعنى القصد إلى معاني الكلم أن تعلم السامع بها شيئا لا يعلمه، ومعلوم أنك أيها المتكلم لست تقصد أن تعلم السامع معاني الكلم المفردة التي تكلمه بها، فلا تقول (خرج زيد) لتعلمه معنى (خرج) في اللغة ومعنى (زيد) ، كيف ومحال أن تكلمه بألفاظ لا يعرف هو معانيها كما تعرف؟ ولهذا لم يكن الفعل وحده من دون الاسم، والاسم وحده من دون اسم آخر أو فعل كلاما، وكنت لو قلت (خرج) ولم تأت باسم ولا قدرت فيه ضمير الشيء ، أو قلت (زيد) ولم تأت بفعل ولا اسم آخر ولم تضمره في نفسك، كان ذلك وصوتا تصوته سواء>>(43).
3) مقصدية اختصاص الإنسان باللغة.
تعتبر مسلمة اختصاص الإنسان باللغة من الثوابت الموجهة لمسار البحث في تراثنا العربي الإسلامي، فلما كان البعد اللغوي العنصر المحدد في بروز خصوصية الإنسان ضمن الموجودات، فقد تعين النظر في ملابسات ارتباط الإنسان بالكلام من جهتين:
أ- كونية الظاهرة بالنسبة للإنسان .
ب- تهيؤ الإنسان لها (44).
ففيما يخص كونية ظاهرة الكلام في الإنسان فتتجلى في كون الحدث اللساني ملازم للوجود البشري مهما تباعد المكان أو تعاقب الزمان .
وأما تهيؤ الإنسان لها فتتجلى في الاستعداد الخلقي لأداء ما لا تتم الظاهرة اللغوية إلا به ، وهو حدث التصويت والتقطيع، وهو ما يصطلح عليه ابن جني بقابلية النفوس (45) يقول ابن سنان<<لما كانت الطبيعة الإنسانية محتاجة إلى المحاورة لاضطرارها إلى المشاركة والمجاورة، انبعثت إلى اختراع شيء يتوصل به إلى ذلك، ولم يكن أخف من أن يكون فعلا، ولم يكن أخف من أن يكون بالتصويت وخصوصا والصوت لا يثبت ولا يستقر ولا يزدحم، فتكون فيه مع خفته فائدة وجود الإعلام به مع فائدة انصحائه إذ كان مستغنيا عن الدلالة به بعد زوال الحاجة عنه، أو كان يتصور بدلالته بعده، فمالت الطبيعة إلى استعمال الصوت ووفقت من عند الخالق بآلات تقطيع الحروف وتركيبها معا ، ليدل بها على ما في النفس من أثر>>(46) .وإذا كانت تأملات المفكرين العرب قد تحسسوا روابط اللغة بالإنسان على مستوى وجوده الفردي، فإن الفكر اللغوي العربي قد اهتم أيضا بمستوى تحول الظاهرة من الوجود الفردي إلى الوجود الجماعي في المجتمع الإنساني ومن ثم فحصوا مقاصد الكلام وأبعاده باعتباره قيمة جوهرية بين الإنسان ومجتمعه(47) وقد ألح الجاحظ على جعل صيغة الإرتباط بين الإنسان واللغة ارتباطا قارا على محوري النوع والزمن، وهو ما يفسر أن وجود الإنسان متراهن مع تولد الحاجات، وأن سد الحاجات متعذر خارج حدود اللغة، وبذلك جعل الجاحظ <<الحاجة إلى بيان اللسان حاجة دائمة وآكدة وراهنة ثابتة>>(48).
أما ابن جني فقد نبه – وهو بصدد استقراء خاصية الكلام عند الإنسان – إلى التراهن القائم بين وجود الإنسان، وتكامل بعده اللغوي المتمثل في ضرورة سد الحاجة أولا وبالذات حيث يقول:<<وذلك أنهم وزنوا حينئذ أحوالهم وعرفوا مصاير أمورهم ، فعلموا أنهم محتاجون إلى العبارة عن المعاني>>(49).
اما ابن وهب الكاتب وفي سياق بحثه عن علة الحدث اللساني في الوجود، وأسرار الغايات التي يفضي إليها الكلام في الحياة البشرية، فقد أبرز جملة من العناصر التي تؤدي مقاصد الكلام وهي : عموم النفع و كمال النعمة وبلوغ الغاية وحصول المقصد(50).
وعلى هذا النمط من التحليل والاستدلال خلص عبد القاهر إلى نتيجة تجعل من الكلام المحرك لخروج كوامن الانسان وطاقاته من حيز القوة إلى حيز الفعل، إذ لولاه <<لم تكن لتتعدى فوائد العلم عالمه، ولاصح من العاقل أن يفتت عن أزاهير العقل كمائمة، ولتعطلت قوى الخواطر والأفكار عن معانيها، واستوت القضية في موجودها وفانيها… ولكان الإدراك كالذي ينافيه من الأضداد، ولبقيت القلوب مقفلة على ودائعها، والمعاني مسجونة في مواضعها، ولصارت القرائح عن تصرفها معقولة والأذهان عن سلطانها معزولة>>(51).
إن المنهج اللغوي الذي ذكرنا بعض ملامحه عند علماء المسلمين، يعتبر خلاصة تجربة عميقة ظلت خلالها أجيال الباحثين المخلصين ينقبون للتعرف على مقاصد الكلام وفضله وأبعاده، وهم يدركون أن البحث في أسرار اللسان العربي، هو بحث في السليقة اللغوية لهذه الأمة وهو في جوهره<<دراسة لأسرار الإنسان، وتعرفا على أخفى وأغمض ما يختلج في بواطنه من حس وشعور، وأن العناية بالأحوال والكيفيات والتراكيب ليست إلا بحثا في أسرار القلوب والعقول الماثلة في أسرار الكيفيات والتراكيب، وأن المعنى الخفي الغامض والمستكن وراء هذا الحال من أحوال اللفظ العربي، إنما هو تلك الإختلاجة الخفية والغامضة في باطن النفس التي ابدعت هذا التركيب>>(52) وهو ما يحيلنا مباشرة إلى مشكل علاقة الإنسان باللغة في أصل اتصاله بها ثم في مدى انحصاره فيها، وعلى ضوء هذه الثوابت كان فهم الأصوليين للغة على مستوى التنظير، فنزلوها على مقتضى حقيقتها في مستوى التطبيق كما سينضج ذلك من خلال العناصر اللغوية الآتية عند علماء الأصول.
4- حقيقة الخطاب الشرعي:
اذا كان فهم الخطاب الشرعي، هو تحصيل لدلالته الشرعية واستنتاج لها، فإن أول نظر يقوم به الأصولي هو النظر في حقيقة الخطاب ومعناه، والأصولي يجد أن ذلك المعنى هو <<الكلام القائم بذات الله تعالى، وهو صفة قديمة من صفاته>>(53)¯ .
إن مهمة الأصولي لا تقف عند حد تعريف الكلام، واستخراج اقسامه وأنواعه، فهذه من مقدمات عمله، وليست من أهدافه، ففرطه فهم الخطاب لأجل الاستدلال به على الأحكام، ولابد لصحة الاستدلال بالخطاب من معرفة ما يفيده الخطاب. << فالاستدلال بالأدلة يختلف بحسب تجردها عن قرينة، وبحسب اقتران القرائن بها ، والخطاب من الأدلة منه مشترك بين حقيقتين، ومنه غير مشترك، وحقيقة الخطاب قد تكون شرعية، وقد تكون عرفية، والقرائن قد تعدل بالخطاب عن ظاهره، وقد تكون مكملة لظاهره>>(54).
ونكتفي هنا بتعريف أبي الحسين البصري المعتزلي في هذه القضية، ما دام جميع الاصوليين يجعلون قضية التعريف بالخطاب أساسا في نظريتهم اللغوية، إلى الحد الذي جعلهم يرجعون أسباب الخلاف بين الفقهاء في الفروع إلى سببين رئيسيين تعود إليهما سائر الأسباب الأخرى وهما:
أولا : الخلاف في ثبوت النص، وهو خاص بالحديث والرواية.
ثانيا : الخلاف في فهم النص ، بحسب قواعد اللغة وأوضاعها المعروفة، وأن فيه دلالة على هذا الحكم أولا . وهذا يشمل القرآن والحديث في آن معا .
يقول ابن السيد البطليوسي << فإذا رجعنا إلى اختلاف الفقهاء في الأحكام الفقهية وأسبابه … وجدنا أن اختلافهم هذا منه ما يرجع إلى اختلافهم في الأصل الذي بنيت عليه آراؤهم، ومنه ما يرجع إلى اختلافهم في وسائل الفهم والنظر فقط، مع اتحادهم في الأصل الذي رجعوا إليه… فجمع الأحكام المستمدة من القرآن، وإنما يرجع اختلافهم فيها إلى اختلافهم في وسائل فهمه وطرائفه، لا إلى اختلافهم فيه أو في ثبوته، أو في وجوب العمل به>>(55) . وكذلك بالنسبة للأحكام المستمدة من السنة، لا يرجع اختلافهم فيها إلى اختلافهم في السنة من ناحية أنها الأصل الثاني الذي تقوم عليه الأحكام الشرعية، وأنها مبينة للكتاب، وإنما يرجع الإختلاف فيها تارة إلى الإختلاف في فهمها وتارة إلى عدم العلم بها، وتارة إلى عدم وثوق بعضهم بروايتها، على حين وثق بعضهم الآخر بها(56).
وما دمنا نحاول استقصاء أهم الشروط التي وضعها علماء الأصول في نظريتهم اللغوية ، لعملية التواصل الشرعي بصفة خاصة، والتواصل اللغوي بصفة عامة، وما دام قد تحدد لدينا مفهوم أولي للخطاب، نقول إن لهذا التحديد علاقة وطيدة بقضية المعنى، وما لهذه المسألة من آثار في أسباب اختلاف الفقهاء في الفروع، حتى صار منهم المالكي والشافعي والحنبلي والحنفي وغير ذلك، كما كانت سببا في اختلافهم في أصول الإعتقاد، حتى صار منهم الأشعري والمعتزلي والجبري والقدري والمشبه والجهمي، ومن شيعتهم الزيدي والرافضي والاسماعلي وغير ذلك، لقد ادرك علماء الأصول خطورة المعنى، وخطورة قضية استخلاص الدلالة الشرعية من النص الشرعي، فحاولوا الإلمام بأطراف القضية، ومن ثم اتجهت عنايتهم إلى لغة الخطاب، محاولين التعرف على أسرارها في التعبير عن المعاني، حتى يستطيعوا تحديد طريق منضبط يمكن انسحاب الحكم الصحيح عليه في المسائل المعروضة، فانتهوا بعد استقرائهم الدقيق للخطاب إلى تحديد الوجوه التي يرى بها ، وهو ما مكنهم من تحديد أهم الأسباب المؤدية إلى الخلل في فهم مراد الخطاب، والتي لا تخرج في مجملها عن خمسة أسباب في نظر البعض، وثمانية في نظر آخرين، وهي الشروط نفسها التي لا يصح مع عدم معرفتها الاستدلال بالخطاب.
منها : احتمال الاشتراك ، واحتمال النقل بالعرف أو الشرع، واحتمال المجاز، واحتمال الإضمار، واحتمال التخصيص(57).
ونظرا لأهمية الفهم وخطورتها، فإننا وجدنا من القدماء من بلغ بهم الإهتمام، إلى حد تأليف كتب تؤسس لها، ومن هذه الكتب وأهمها (الانصاف في التبيه على المعاني والأسباب التي أوجبت الإختلاف بين المسلمين في آرائهم) لابن السيد البطليوسي الذي يقول: "إن الإختلاف عرض لأهل ملتنا من ثمانية أوجه، كل ضرب من الخلاف متولد منها متفرع عنها: الأول : اشتراك الألفاظ والمعاني . الثاني : الحقيقة والمجاز . الثالث : الإفراد والتركيب . الرابع : الخصوص والعموم . الخامس : الرواية والنقل . السادس : الاجتهاد فيما لا نص فيه . السابع : الناسخ والمنسوخ . الثامن : الإباحة بالتوسع(58). فهذه ثمانية أسباب للاختلاف، وكلها تتعلق بالخطاب، غير أن ما يلاحظ فيها، أنها تنقسم إلى قسمين: الأربعة الأولى منها، عناصر لغوية، والأربعة الأخيرة عناصر غير لغوية، وقد كان لهذه الأسباب آثارها الواضحة في اختلاف الفقهاء، يقول عبد الوهاب السبكي:"الخلاف إما في مسائل مستقلة، أو في فروع مبنية على أصول، والأول ينشأ من أحد أمور . الأول : كون اللفظ مشتركا، وذلك في مسائل، منها (القرء) فهو عند الشافعي رضي الله عنه(الطهر) وعند أبي حنيفة رضي الله عنه (الحيض) ومنها (او) في قوله تعالى(إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض)(59) . قال مالك رضي الله عنه (أو) للتخيير فيفعل السلطان بقاطع الطريق ما يراه من هذه الأمور ، وقال الشافعي وأبو حنيفة للتفصيل والتقسيم، فمن حارب وقتل وأخذ المال، صلب وقتل، ومن قتل ولم يأخذ، قتل، ومن أخذ ولم يقتل ، قطع . الثاني: الحقيقة: كحديث "لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل" . قال الشافعية، لا صيام صحيح، فحقيقة الصيام المفترض عندهم تنتفي بانتفاء نية الليل، وقالت الحنفية: لاصيام كامل، فعدلوا إلى المجاز(60). تعد هذه الأمثلة التي ليست سوى قليل من كثير من الفروع الفقهية المبنية على الإختلاف في تحديد منطلقات فهم الخطاب المتضمن لواحد أو أكثر من هذه الأوجه، من أهم الأسباب الثمانية التي أرجع إليها الأصوليون أن تكون مصدر الخلل في الفهم، ومن أجل هذا الغرض وسعيا من قبل الأصوليين في ضبطهم لهذه العملية، قاموا بوضع سلم تراتبي للقواعد التي قد ترد في الخطاب، مع احتمال إخلالها بالفهم لدى المستنبط، كلما وقع تعارض بينها على الشكل الآتي: إذا وقع التعارض بين الاشتراك والنقل ، فالنقل أولي . إذا وقع التعارض بين الإشتراك والمجاز، فالمجاز أولي . إذا وقع التعارض بين الإشتراك والإضمار ، فالإضمار أولي . إذا وقع التعارض بين الإشتراك والتخصيص، فالتخصيص أولي . إذا وقع التعارض بين النقل والمجاز، فالمجاز أولي . إذا وقع التعارض بين النقل والإضمار ، فالإضمار أولي . إذا وقع التعارض بين النقل والتخصيص ، فالتخصيص أولي . إذا وقع التعارض بين المجاز والاضمار، فهما سواء لأن كل واحد منهما يحتاج إلى قرنية تمنع المخاطب عن فهم الظاهر . إذا وقع التعارض بين المجاز والتخصيص ، فالتخصيص أولي. إذا وقع التعارض بين الإضمار والتخصيص ، فالتخصيص أولي . إذا وقع التعارض بين الإشتراك والنسخ ، فالاشتراك أولي . إذا دار للفظ بين التوطؤ والاشتراك ، فالتواطؤ أولي . إذا وقع التعارض بين أن يكون اللفظ مشتركا بين علمين وبين معنيين ، كان جعله مشتركا بين علمين أولي ، وجعل اللفظ مشتركا بين علمين ومعنى أولى من جعله مشتركا بين معنيين . اللفظ إذا تناول الشيء بجهة الإشتراك وبجهة التواطؤ كان جعله بجهة التواطؤ أولي(61). وتقوم هذه القواعد عند الأصوليين ، على أساس نظرتهم إلى نصوص التشريع ، باعتبارها وحدة متكاملة يبين بعضها بعضا ، أي على أساس أن أحكام التشريع ليست نصوصا لغوية تفهم على أساس من قواعد النحو وأساليب البيان فحسب ، بل هي قبل كل شيء تمثيل إرادة المشرع من التشريع ، ثم إن مقصد المشرع من التشريع ، هو التكليف الذي يجب أن يتجه فيه المكلف إلى أن يكون مقصده في العمل والنتائج متفقا مع مقصد المشرع في التشريع (62)، وقد أشار الى هذه المعنى الإمام الشاطبي بقوله : "إن قصد الشارع من المكلف أن يكون قصده في العمل موافقا لقصد الله في التشريع" (63)، ويقول أيضا " إن القصد غير الشرعي هادم للقصد الشرعي"(64). فالخطاب الشرعي وفق نظر الاصوليين ، هو إسناد قيمة شرعية من مجموعة من القيم (الوجوب والإباحة والخطر والندب والكراهة) إلى فعل المكلف ، فأي استخلاص للدلالة الشرعية من الخطاب يكون ضبطا للقيمة الشرعية التي يسندها النص للفعل الموجه شرعيا ، وتحديدا للعلاقات الدلالية بين القيم الشرعية وصيغها اللغوية . وتظهر قيمة البحث في هذه العناصر في جملة البحوث التي قدمها الأصوليون في مبحث (صيغ التكليف) أو (صيغ الحكم) الذي تناولوا فيه أساسا ، حقيقة قيمتي الوجوب والحظر ، والعلاقات المنطقية بينهما من جهة ، وبينهما وبين صيغها اللغوية من جهة ثانية(65). 5- حقيقة المتكلم والمخاطب : تقوم نظرية الإبلاغ اللغوي عند الأصوليين على أساس قواعد مسطرية، تعد في مجملها مسلمات خطابية لا يصح خطاب بدونها، وقد ناقشنا من جملة هذه الشروط ، معقولية الخطاب، والمبادئ التي يصح معها فهم الخطاب والاستدلال به، وبذلك نكون قد وصلنا في هذا التحليل إلى جزء أساسي لا يقل اهمية عند الأصولي في نظرته للخطاب، وهي الشروط الوجودية المتعلقة بالمتكلم والمخاطب ومقام الخطاب. فالممارسة الكلامية تخضع لقاعدة مسطرية تنتظم بموجبها العلاقة بين المتكلم باعتباره منشئا للخطاب، والمخاطب باعتباره متلقيا للخطاب، أو بعبارة الأصوليين مكلفا بتنفي\ الخطاب. ومن جملة ما يفيده هذا الكلام، أن التواصل الشرعي يعتبر تواصلا لغويا متحققا في مجال الشرع ، وفق شروط وجودية خاصة (66) . فالأصولي متجه بهذا الكلام إلى مخصوصين بالخطاب، وهم المؤتمرون بأوامر الشريعة، والمنتهون بنواهيها، ولهؤلاء في الأصول نعت مخصوص ، فهم "المكلفون" و(التكليف) يتناول (الفعل وأن لا تفعل)(67) وعلى الرغم من اتفاق الأصوليين حول قضية التكليف، إلا أنهم يختلفون حول ماهية التكليف(68). لقد أقام المعتزلة قسمتهم في التكليف على أساس حسن الافعال وقبحها لذاتها، أو للوجوه التي هي عليها، ونصبوا العقل حكما عليها، في حين جعل الأشاعرة ، وعلى رأسهم أمام الحرمين- قسمتهم على أساس تعلق الخطاب بها أمرا ونهيا، فإذا نظرنا في الأفعال من حيث هي مناط التكليف ، وجدناها تنقسم إلى ثلاثة أقسام رئيسية هي : الواجب والمحظور والمباح، ولكل نوع من هذه الأنواع معنى خاص عند كل من المعتزلة والأشاعرة ، وذلك حسب ما تقتضيه المساطر المحددة في الأصول الاعتقادية للمذاهب عند كل منهما . فالواجب عند الأشاعرة ، ما يرد الخطاب السمعي بإيجابه على وجه جازم. والمحظور ما جزم الشرع على تركه . والمباح ما يكون الطرفان فيه على السوية، وبعبارة أخرى" فالحرام هو المقول فيه اتركوه ولا تفعلوه ، والواجب هو المقول فيه افعلوه ولا تتركوه، والمباح هو المقول فيه، ان شئتم فافعلوه وان شئتم فاتركوه، فإن لم يوجد هذا الخطاب من الشارع فلا حكم ، فالعقل لا يحسن ولا يقبح ، ولا يوجب شكر النعم ولا حكم للأفعال قبل ورود الشرع(69). أما المعتزلة وعلى رأسهم القاضي عبد الجبار ، وأبو الحسين البصري فيدهبون إلى أن الواجب، هو الفعل الذي له صفة زائدة على حسنه ويترتب على تركه الذم وهو "ليس لمن قيل له: ( واجب عليه ) الإخلال به على كل حال"(70) والمحظور هو الفعل القبيح الذي يترتب على فعله الذم "والقبح ضربان أحدهما صغير، والآخر كبير ، والصغير هو الذي لا يزيد عقابه وذمه على ثواب فاعله ومدحه ، والكبير هو ما لا يكون لفاعله ثواب أكثر من عقابه ولا مساو له"(71). وأما المباح فهو الفعل الحسن الذي ليست له صفة زائدة على حسنه "ومعنى الإباحة، هو إزالة الحظر والمنع بالزجر والوعد، وغيرهما ممن يتوقع منه المنع"(72). وفي هذا إشارة إلى أن التكليف خاصية من خصائص الخطاب الشرعي دون غيره من الخطابات العادية ، إذ لا يجوز إلا من الله تعالى، أما ما نراه بين الناس من تكليف بعضهم لبعض، فإنماهو على سبيل توخي المصلحة لا على سبيل التكليف . ومن شروط المتكلم (الحاكم) عندهم أن يكون عالما يقبح القبيح وبوجوب الوجوب، ولا يرى المعتزلة مانعا في إطلاق لفظ الوجوب على الله تعالى، لأن أحكام الأفعال لا تختلف في رأيهم بين الشاهد والغائب، كما لم يشترطوا في الأمر أن يكون أمرا بالشيء ناهيا عن ضده، لأن ماهية الخطاب عندهم، الإخبار والاعلام. لقد تسبب هذا القول للمعتزلة في هجوم شديد من قبل خصومهم الأشاعرة الذين لم يشترطوا في المتكلم (الحاكم) إلا أن يكون قادرا لو ابتدأ بالألم لحسن منه(73) ولا شك أن قول المعتزلة بخصوص مامضى يقوم على أساس مسطرة خطابية تقضي بالاعتراف بالنسق اللغوي، ثم إن مقتضى التكليف في الأساس الإعتزالي، هو التعريض للثواب، فهو جوهر ما يؤول إليه الخطاب عندهم ، وما ليس من هذا الباب من الأفعال والتروك، يكون الإنسان مضطرا إليه ، ومن هذا الوجه يختلف جوهر الخطاب الشرعي عن باقي الخطابات غير الشرعية . أما بخصوص الشروط المتعلقة بالمخاطب أو المتلقي للخطاب، فهي لا تختلف كثيرا بين سائر الأصوليين معتزلة كانوا أو أشاعرة ، غير أن المختلف فيه هو يعد هذه الشروط. فإذا اشترطوا العقل، كان له عند المعتزلة عموما وظيفة خاصة، وعند الأشاعرة وظيفة أخرى، وإذا اتفقوا على شرط القدرة ، اختلفوا في طبيعة الأعمال التي تستطيع آداءها . يشترط القاضي عبد الجبار لصحة تكليف المكلف ثلاثة شروط تستهدف تمكينه من فعل ما كلف به ، وهذه الشروط هي : أولا : القدرة على فعل ما كلف به أو تركه ، لأن الفعل إنما يكون بالقدرة بعد الإرادة المتصلة بالدواعي والصوارف، وحتى يكتمل عمل القدرة والتمكين يجب زوال الإلجاء، وهذا ضروري لاثبات تردد كل "الدواعي والصوارف وإثبات الاختيار الذي هو شرط الفعل(74). ثانيا : وجود الآلات التي يحتاج إليها المكلف للفعل، ويعد ه\ا الشرط من كمال القدرة ويتعلق بها، ويعتبر وجود الآلة من باب إزاحة العلة ، كقولك لآخر (ارم إذا وجدت قوسا)(75). ثالثا : أن يكون المكلف عالما بما كلف به ، أو متمكنا من العلم به ، ليستطيع الفعل أو الترك وهذا ما يطلق عليه القاضي عبد الجبار إسم (كمال العقل)، فبكمال العقل يستطيع المكلف تحصيل جملة المعارف، مثل العلم بالأفعال القبيحة والحسنة، وبصفاتها، وبالوجوه التي معها تقع، وكذا العلم بالمكلف وصفاته وحكمته "فجملة العلوم الواجبة على المكلف يتحصل له بعضها بالضرورة، وبعضها الآخر بالنظر والإستدلال، ومن هنا لم يصح تكليف الأطفال ولا الحيوان، لأنه لم يكتمل لديها العقل الصالح بالتكليف"(76) وخلاصة ما ذهبت إليه المعتزلة بخصوص مقتضى التكليف، أن التكليف عقلي وشرعي، والتكليف العقلي سابق على التكليف الشرعي، فالشرع يقوم على العقل، والنظر هو الذي يؤدي إلى معرفة الله وعدله وتوحيده ، ومن ثم نعلم صحة التكاليف الشرعية ويترتب الواجب علينا بفعلها(77). والقول الوجيز عند الأشاعرة "أنه يكلف المتمكن، ويقع التكليف بالممكن، ولا نظر إلى الإستصلاح ونقيضه"(78) فشرط المتلقي للخطاب وفق هذا التعرف ، أن يكون عاقلا فاهما للتكليف ، لأن التكليف خطاب، وخطاب من لا عقل له ولا فهم، محال(79). إن مثل هذه الخلافات ذات الطابع المسطري، كما يقول الدكتور أحمد العلوي، ترجع إلى أساس إطاري صرف" الفرق الاسلامية" فالتي تتصور العلاقة بين الله والانسان قائمة في إطار العقل، تخضع العلاقات القولية إلى العقل، وهذا ما ذهبت إليه المعتزلة، أما الفرق التي تتصور العلاقة بين الله والإنسان قائمة في إطار القدرة، فتخضع تلك العلاقات القولية لمبدإ الإرادة الإلهية، وهي الفرق التي تبدو مساطرها القولية غريبة، لكنها غريبة فقط حينما تنتقل إلى مستوى العلاقة القولية بين البشر، أما في مستوى العلاقة القولية بين الله والإنسان القائمة على الإرادة، فإنها لا تكون غريبة(80). فالقوم الذين ينكرون أن يتعلق الخطاب بالمعدوم على شرط الوجود، كانوا يقصدون عدم جواز الخطاب بدون وجود مخاطب متلق لهذا الخطاب، ثم إن حكم الخطاب الذي هو أمر ونهي، أن يصدق بأمور و منهيات، ولم يكن في الأزل مخاطب معرض لأن يحث على أمر، ويجزر عن آخر، وبذلك استحال في مساطرهم القولية أن يكون المعدوم مأمورا ولو على شرط الوجود ، كما تقرر عند الفرق الأخرى(81). وقد ضربوا لذلك مثالا ، مفاده أن الإنسان إذا أخبره النبي الصادق بأن الله تعالى سيرزقه ولدا، وسيموت قبل ولادته، فإنه ربما قال لبعض الناس إذا أدركت ولدي بالغا فقل له أباك يأمرك بتحصيل العلم، فها هنا قد وجد الأمر ، والمأمور معدوم، حتى إنه لو بقي ذلك الأمر إلى أوان بلوغ ذلك الصبي ، لصار مأمورا بذلك الأمر(82). وإذا كان الأشاعرة ومن سار على نهجهم يخالفون المعتزلة في هذا الترتيب المعرفي، فيقدمون النقل على العقل، ويقدمون التكليف الشرعي على التكليف العقلي، فإن هذا الخلاف وعلى الرغم من أهمية القصوى في الموضوع، فإنه لم يؤد إلى تغاير في نظرة الجميع إلى اللغة التي هي أساس التكليف الشرعي وأداته، مما يجعل أغلب القواعد المسطرية لا تتعدى الطابع الإفتراضي عند الفريقين، وبالخصوص عندما يتعلق الأمر بالخطاب الشرعي واستنباط الأحكام منه . 6- القول الأصولي وقصد المتكلم . يعلق الأصوليون أهمية كبرى على مراد المتكلم، فلا يتحقق التواصل الشرعي إلا إذا تعرف المكلف على قصد المشرع من قوله ، لأن المعقول من قولنا "أنه مخاطب لنا، أنه قد وجه الخطاب نحونا، ولا معنى لذلك إلا أنه قصد إفهامنا"(83). فبالنسبة للخطاب القرآني، يلاحظ أنه لا يمكن الشروع في فهمه إلا إذا تقرر أن المتكلم يريد أن يدل بكلامه القرآني على ما يريد، "فلو أنه تعالى أخفى بعض مراده في بعض ، لكان قد بطل طريق الإستدلال بخطابه على ما يستدل به عليه، والأدلة إذا دلت بطريقة واحدة فالقدح في البعض يقدح في الجميع"(84). يقول ابن تيمية إن "الكلام يدل بقصد المتكلم به وإرادته، وهو يدل على مراده، وهو يدلنا بالكلام على ما أراد، ثم يستدل بإرادته على لوازمها، فإن اللازم مدلول عليه بلزومه"(85) فالكلام قد يحصل من غير قصد فلا يدل، ومع القصد فيدل ويفيد، فكما أن المواضعة لابد منها، فكذلك المقاصد التي بها يصير الكلام مطابقا للمواضعة(86). إن لمعرفة قصد المتكلم عند الأصوليين دخلا كبيرا في توجيه الدلالة، ومحاولة تحديدها مهما اختلفت صورة اللفظ، فالعناية بالدلالة يقصد منها معرفة مراد المتكلم، والهدف من تلك الإرادة ، كما يقول الأصوليون، هو تحقيق أهداف الشريعة الإسلامية، وما ترمي إليه من الحفاظ على الدين والنفس والمال والعقل والنسل(87)، "وإنما اعتبر حال المتكلم لأنه لو تكلم به ولا يعرف المواضعة، أو عرفها ونطق بها على سبيل ما يؤديه الحافظ، أو يحكيه الحاكي، أو يتلقنه المتلقن، أو تكلم به من غير قصد لم يدل، فإذا تكلم به وقصد وجه المواضعة، فلابد من كونه دالا إذا علم من حاله أنه يبين مقاصده، ولا يريد القبيح ولا يفعله، فإذا تكاملت هذه الشروط فلابد من كونه دالا، ومتى لم تتكامل فموضوعه أن لا يدل، وإن كان متى وقع ممن ليس هذا حاله لم يصح أن يستدل به"(88)ومفهوم القصد الذي أورده المعتزلة هنا، على لسان القاضي عبد الجبار ذو أهمية كبرى بالنسبة للإطار الذي ينطلق منه المعتزلة، في محاولة لإعطاء مشروعية دينية لتأويلاتهم للنص القرآني، من حيث إن قصد المتكلم به – الله عز وجل- لا يمكن معرفته إلا بالاستدلال العقلي وحده . وإذا كان المعتزلة قد اكتفوا بالتركيز على قصد المتكلم الذي بدونه لا يقع للكلام دلالة، فإن الأشاعرة – وعلى رأسهم "عبد القاهر الجرجاني" قد جعلوا من هذا المفهوم الأساس في صياغة نظرية للدلالة في الفكر العربي عرفت "بنظرية النظم" وضع فيها قوانين كلية للدلالة على مستوى التركيب، فالتركيب اللغوي لا ينبئ عن مدلوله بمجرد المواضعة ، بل لابد من اعتبار قصد المتكلم، وهي اشارة واضحة إلى ما يحيط عملية الفهم من صعوبة وتعقيد، يقول ابن القيم إن "الدلالة تنقسم إلى حقيقية وإضافية، فالحقيقية تابعة لقصد المتكلم وإرادته، وهذه الدلالة لا تختلف، والإضافية تابعة لفهم السامع وإدراكه، وجودة فكره وقريحته وصفاء ذهنه ومعرفته بالألفاظ ومراتبها، وهذه الدلالة تختلف اختلافا متباينا بحسب تباين السامعين في ذلك "(89). وإذا كان فهم النصوص على مستوى دلالاتها الوضعية الظاهرة أمرا يتفاوت فيه البشر ، فما بالنا بفهم النصوص على مستوى دلالتها الوجودية ، والصعوبة كامنة أولا في فهم الكلام على المستوى الوضعي، كما يقول محي الدين بن عربي بنظرته الصوفية. << إن الإنسان ينطق بالكلام يريد به معنى واحدا مثلا من المعاني التي يتضمنها ذلك الكلام، فإذا فسر بغير مقصود المتكلم من تلك المعاني، فإنما فسر المفسر بعض ما تعطيه قوة اللفظ، وإن كان لم يصب مقصود المتكلم، ألا ترى الصحابة – يقول ابن عربي – كيف شق عليهم قوله تعالى: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم )(90) فأتى به نكرة، فقالوا: وأينا لم يلبس إيمانه بظلم، فهؤلاء الصحابة وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم، ما عرفوا مقصود الحق من الآية، والذي نظروه سائغ في الكلمة غير منكور، فقال لهم النبي e ، ليس الأمر كما ظننتم ، وإنما أراد الله بالظلم هنا، ماقاله لقمان لابنه وهو يعظه (يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ) (91) فقوة الكلمة تعم كل ظلم، وقصد المتكلم إنما هو ظلم مخصوص... ولذلك تتقوى التقاسيم في الكلام بقرائن الأحوال، فإنها المميزة للمعاني المقصودة للمتكلم"(92) فعلى الرغم مما يثيره هذا النص من قضايا تتعلق بنظرة الصوفي للأشياء ، فإن ما يهمنا نحن منه، هو تصويره لعملية الفهم المصاحبة لمجموعة من الصعوبات المرتبطة أولا بالمستنبط أو القارئ، ثانيا بطبيعة النص اللغوي الذي لا يبقى حسب هذه النظرة في حالة ثبات، مادام المدلول في حالة تغير دائم وخلق جديد، وليس هذا الفهم الذي نجده عند ابن عربي وعند الصوفية عموما غريبا، وإنما هو مفهوم ذو صلة وثيقة بعملية الفهم، وإن كان الفارق بين الصوفي وغيره من دارسي النصوص فارق في الدرجة لا في النوع . ومعنى هذا الكلام أن الخطاب الشرعي باعتباره خطابا لغويا يتصف بالانفتاح و "يكون الخطاب مفتوحا إذا احتمل بالنسبة لمخاطب واحد أو مخاطبين وجهين دلاليين مختلفين على الأقل"(93). ويعتبر هذا الإنفتاح مزية لا منقصة كما يقول الجرجاني: "واعلم أنه إذا كان بينا في الشيء أنه لا يحتمل إلا الوجه الذي هو عليه لا يشكل، وحتى لا يحتاج في العلم- بأن ذلك حقه وأنه الصواب- إلى فكر وروية، فلا مزية، وإنما المزيه ويجب الفضل، إذا احتمل في ظاهر الحال غير الوجه الذي جاء عليه وجها آخر"(94) وإذا اعتبرنا المقام محددا أساسا لدلالات الخطاب، بحيث قد يلزم من تغير المقام تغير دلالة الخطاب الواحد وتعديلها على الأقل، فإننا نستطيع تأكيد انفتاح الخطاب الطبيعي بدليل التغير غير النهائي وغير المحدود للمقامات، ويتجلى هذا الإنفتاح على مستوى الألفاظ وعلى مستوى التركيب(95). ولتوضيح عناية الأصوليين بهذا الجانب نورد النص الآتي على لسان ابن القيم "قال الرسول(ص) : (لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان)(96)، إنما كان ذلك لأن الغضب يشوش عليه قلبه وذهنه ، ويمنعه من كمال الفهم ، ويحول بينه وبين استيفاء النظر، يعمي عليه طريق العلم والقصد، فمن قصر النهي على الغضب وحده (وهو المفهوم من ظاهر اللفظ) دون الهم المزعج، والخوف المقلق والجوع والظمإ الشديد ، وشغل القلب المانع من الفهم ، فقد قل فقهه وفهمه ، والتعويل في الحكم على قصد المتكلم، والألفاظ لم تقصد لنفسها وإنما هي مقصودة للمعاني، والتوصل إلى معرفة مراد المتكلم ، ومراده يظهر من عموم لفظه تارة ، ومن عموم المعنى الذي قصده تارة، وقد يكون من المعنى أقوى، وقد يكون من اللفظ أقوى، وقد يتقاربان"(97). فالدليل الكلامي عند الأصوليين ، دليل قصدي، سواء كان لفظا مفردا، أو قولا مركبا، فإذا اجتمع القصد والدلالة القولية أو الفعلية ترتب الحكم، ولهذا ألغى الشارع الألفاظ التي لم يقصد المتكلم معانيها، بل جرت على غير قصد منه، كالنائم ، والناسي والسكران والجاهل والمكره والمخطئ من شدة الفرح أو الغضب أو المرض(98) و<<إلا فنفس استماع اللفظ بدون المعرفة للمتكلم وعادته لا يدل على شيء، إذا كانت دلالتها قصدية إرادية تدل على ما أراد المتكلم أن يدل بها عليه، لا تدل بذاتها فلابد أن يعرف ما يجب أن يريده المتكلم بها، ولذا لا يعلم بالسمع بل بالعقل مع السمع>>(99) .
هكذا كانت تتقلب وجهات نظر الأصوليين حول النص بحثا عن المقاصد، ولعله الباب الذي دخل منه التأويل إلى الدرس الأصولي، فقد اعتمده الأصوليون للتوفيق بين النصوص التي تجمع في ظاهرها بين الإختلاف والتعارض(100) ويظهر ذلك في كتابات الأصوليين منذ الشافعي إلى أن استوى علم أصول الفقه على سوقه ، يقول الشافعي في باب البيان <<فإنما خاطب الله بكتابه العرب بلسانها على ما تعرف من معانيها، وكان مما تعرف من معانيها باتساع لسانها... وأن فطرته أن يخاطب بظاهر يعرف في سياقه أنه يراد به غير ظاهره، فكل هذا موجود علمه في أول الكلام أو وسطه أو آخره، وتبتدئ الشيء من كلامها يبين أول لفظها منه عن آخره، وتبتدئ، الذي يبين آخر لفظها منه عن أوله، وتكلم بالشيء تعرفه بالمعنى دون الإيضاح باللفظ كما تعرف الإشارة، ثم يكون هذا في أعلى كلامها، لانفراد أهل علمها به دون أهل جهالتها"(101). ولابد ونحن نتعقب خصائص النظرية اللغوية الأصولية في عملية الفهم وشروط الإبلاغ اللغوي، من الإشارة إلى أنه وبالإضافة إلى الشروط التي سبق ذكرها، لابد للناظر الممارس لهذه العملية، من التمكن في وسائل فهم الخطاب الشرعي (كتابا وسنة)، ومن هذه الوسائل على الخصوص، اللغة العربية وعلومها لأن لغة القرآن والحديث هي العربية، ثم علوم القرآن وعلوم الحديث، بالإضافة إلى أقوال السلف باعتبارهم أخص القوم بمعرفة (102)الرسول (ص) " أقواله وأفهاله وحركاته وسكناته ومدخله ومخرجه وباطنه وظاهره، وأعلمهم بأصحابه وسيرته وأيامه، وأعظمهم بحثا عن ذلك، وعن نقلته، وأعظمهم تدينا به واتباعا له واقتداء به>>(103) هذا بالإضافة إلى ضرورة استحضار مجموع نصوص الكتاب والسنة لكونها تعبيرا عن إرادة واحدة، وهي إرادة المشرع .
ونظرا لما بين هذه النصوص كذلك من بيان متبادل يقول ابن تيمية إن <<من لا يحفظ القرآن ولا يعرف معاينه، ولايعرف الحديث ولا معاينه، من أين يكون عارفا بالحقائق المأخوذة عن الرسول (ص) >> (104) وهو الرأي نفسه الذي عبر عنه تلميذه ابن القيم حين قال << فالعلم بمراد المتكلم قد يعرف تارة من عموم لفظه، وتارة من عموم علته، والحوالة على الأول أوضح لأرباب الألفاظ وعلى الثاني أوضح لأرباب المعاني والفهم والتدبر،وقد يعرض لكل من الفريقين ما يخل بمعرفة مراد المتكلم، فيعرض لأرباب الألفاظ التقصير بها عن عمومها وهضمها تارة، وتحميلها فوق ما أريد بها تارة، ويعرض لأرباب المعاني فيها نظير ما يعرض لأرباب الألفاظ، فهذه أربع آفات هي منشأ غلط الفريقين>>(105).
وخلاصة القول : إن المنهج اللغوي المعلن عنه من قبل الأصوليين بخصوص عملية الفهم يبقى صالحا، فالشروط المنصوص عليها تبقى أساسية في كل تواصل لغوي ، وفي كل عملية تستهدف الفهم والتأويل، كما تبقى ملزمة عندما يتعلق الأمر بالخطاب الشرعي الذي يكون العلم به مؤسسا على متن العقيدة الإسلامية .
- لذا يبقى الشرط الأول الذي هو الشرط العقدي ضروريا في معالجة النصوص سواء كانت شرعية أو غيرشرعية .
- اما الشرط الثاني فيقتضي ضرورة اعتبار المتن العقدي في كليته ، لأنه تعبير عن إرادة واحدة هي إرادة صاحب النص(106).
هوامش البحث:
(1) سورة الإسراء، الأية :70
(2) سورة البقرة ، الآية29 .
(3) البقرة: الآية 30
(4) فخر الدين قباوة: المهارات اللغوية وعروبة اللسان، ص10 دار الفكر دمشق الطبعة الاولى 1420هـ 1999م.
(5) الغزالي ، المستصفى من علم أصول الفقه ، ص 80 ضبط عبد السلام عبد الشافي دار الكتب العلمية بيروت لبنان الطبعة الأولى 1413 هـ 1993 م .
(6) المستصفى من ص 66 إلى ص 70 .
(7) الشاطبي ، الموافقات في أصول الشريعة 1/149 ، تحقيق عبد الله دراز – المعرفة لبنان بيروت .
(8) السيد أحمد عبد الغفار ، التصور اللغوي عند الأصوليين : ص 113 دار المعرفة الجامعية ، الطبعة الأولى 1401هـ 1981 م .
(9) الأمدي ، الإحكام في أصول الأحكام ، 1/35 ، تحقيق سيد الجميلي ، دار الكتاب العربي الطبعة الثانية 1406هـ – 1986 م.
(10) امام الحرمين : البرهان في أصول الفقه : 1/46 ، تحقيق عبد العظيم الديب دار الأنصار ، القاهرة الطبعة الثانية 1400 هـ .
(11) ابن السراج : تلقيح الألباب على فضائل الإعراب لابن السراج (مخطوط) الورقة 1 .
(12) السيد قطب ، في ظلال القرآن : 5/3144 دار الشروق القاهرة الطبعة العاشرة 1401 هـ ، 1981م.
(13) الأنعام ، الآية 124 .
(14) سورة المائدة ، الآية 48 .
(15) سورة الشعراء ، الآية : 193 – 195 .
(15) سورة الزمر ، الاية 28 .
(16) سورة الزخرف ، الآية : 3 .
(17) سورة، فصلت: الاية: 3.
(18) سورة الرحمان ، الأية:1-4
(19) طالب عبد الرحمان ، نحو تقويم جديد للكتابة العربية ص 18-19 – كتاب الأمة ، ع 69 السنة 19 المحرم 1420هـ
(20) نحو تقويم جديد للكتابة العربية ص 22 .
(21) الثعالبي ، فقه اللغة العربية وسر العربية : ص 2 ، طبعة 1993 دار الكتاب العربي .
(22) ان التفكير اللغوي لا يوجد مستقلا بذاته ومضامنه، بل هو موزع ومقسم بين الدراسات العربية المختلفة ، ومتداخل مع كثير منها مما يجعل من الصعب عزله ودراسته … (محمد الديباجي التفكير اللغوي عند عبد القاهر الجرجاني)،ص : 29 .
(23) الآمدي ، الإحكام في أصول الأحكام : 1/9 .
(24) الشافعي ، الرسالة :51 تحقيق أحمد شاكر مكتبة دار التراث القاهرة، مصر.
(25) علي حسن العماري، الفنون البلاغية في بيان أبي عثمان مجلة البحث العلمي والتراث الإسلامي ع 5 عام 1402 ص 211 عن الفكر الأصولي لعبد الوهاب أبو سليمان ص 24 .
(26) كمثال على تداخل اللغوي بالشرعي قول الجرمي ( أنا منذ ثلاثين سنة أفتي الناس من كتاب سيبويه ، والمراد بذلك أن سيبويه وإن تكلم في النحو فقد نبه في كلامه على مقاصد العرب وأنحاء تصرفاتها في ألفاظها ومعانيها، ولم يقتصر فيه على بيان أن الفاعل مرفوع والمفعول منصوب ونحو ذلك، بل هو يبين في كل باب ما يفيد فيه، حتى إنه احتوى على المعاني والبيان ووجوه تصرفات الألفاظ والمعاني ( الموافقات ، الشاطبي : 4/116 ) .
(28) عبد الحكيم راضي، نظرية اللغة في النقد العربي ص:62 مكتبة الخانجي، مصر 1950 م.
(29) الآمدي ، الإحكام في أصول الإحكام 1/16-17 .
(30) عبد الحكيم راضي، نظرية اللغة في النقد العربي : ص 64 .
(31) ابن حزم ، الإحكام في أصول الأحكام: 3/39، مكتبة الخانجي الطبعة الأولى 1345هـ.
(32) السكاكي، مفتاح العلوم: ص4 ، الطبعة الأولى مصطفى البابي وأولاده بمصر 1356-1937 هـ .
(33) ابن جني ، الخصائص: 1/17 . تحقيق محمد النجار القاهرة مطبعة دار الكتب المصرية 1952 – 1956 .
(34) ابن سنان الخفاجي ، سر الفصاحة : ص33 شرح وتصحيح عبد المتعال الصعيدي مطبعة محمد علي صبيح، القاهرة 1389هـ – 1969م .
(35) الخصائص : 1/33 .
(36) ابن سنان : سر الفصاحة : ص 39 .
(37) السيوطي ، الزهر : 1/8 تحقيق محمد أحمد جواد المولى وآخرون دار احياء الكتب العربية القاهرة.
(38) ابن خلدون، المقدمة ص: 603 دار الجيل بيروت لبنان.
(39) عبد السلام المسدي ، التفكير اللساني في الحضارة العربية: 148 ، الدار العربية للكتاب ليبيا تونس ، 1981م .
(40) ابن خلدون : المقدمة ، 613 ، دار الجيل بيروت .
(41) عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز : 418 محمود شاكر مكتبة الخانجي القاهرة الطبعة الثانية 1410 - هـ 1989 م .
(42) محمد دنياجي ، التفكير اللغوي عند عبد القاهر الجرجاني، قراءة في اللغة ولغة الخطاب: 158.
(43) دلائل الإعجاز : 315 – 316 .
(44) عبد السلام المسدي : التفكير اللساني في الحضارة العربية : ص 48 .
(45) التفكير اللساني في الحضارة العربية : ص 49 .
(46) ابن سنا، كتاب العبارة ص2 نقلا عن عبد الحكيم راضي: نظرية اللغة في النقد العربي ص: 62 .
(47) التفكير اللساني في الحضارة العربية ، ص: 50 .
(48) الجاحظ ، الحيوان : 1/48 تحقيق وشرح عبد السلام هارون مكتبة مصطفى البابي الحلبي ، الطبعة الأولى . 1357 هـ .
(49) ابن جني الخصائص : 2/30 .
(50) ابن وهب الكاتب، البرهان في وجوه البيان: ص66 تحقيق أحمد مطلوب وخديجة الحديثي بغداد الطبعة الأولى 1967م .
(51) عبد القاهرالجرجاني، أسرار البلاغة: ص1 تصحيح محمد عبده طبعة المنار القاهرة.
(52) محمد أبو موسى، دلالات التراكيب، دراسة بلاغية: ص 25، دار التضامن مكتبة وهبة، الطبعة الثانية 1408 هـ – 1978م .
(53) الغزالي ، المستصفى ص 80 .
¯ الكلام عند المعتزلة غير هذا، فهو عندهم من فعل الله وبذلك فهو محدث.
(54) ابو الحسين البصري ، المعتمد في أصول الفقه: 2/342. تحقيق الشيخ خليل اليس دار الكتب العلمية ، بيروت لبنان الطبعة الأولى 1403هـ 1983).
(55) ابن السيد البطليوسي، الانصاف في التنبيه على المعاني والأسباب التي أوجبت الاختلاف بين المسلمين في آرائهم: ص:15 ، تحقيق محمد رضوان الداية، دار الفكر دمشق سورية الطبعة الثالثة : 1407هـ - 1987م .
(56) الانصاف : ص:15 -16 .
(57) الرازي . المحصول في علم أصول الفقه: 1/351. وتاج الدين السبكي ، الابهاج في شرح المنهاج:1/322
(58) ابن السيد البطليوسي ، الانصاف : 33 .
(59) سورة ، المائدة ، الآية : 33 .
(60) الرازي : المحصول في علم أصول الفقه: 1/325 ، تحقيق طه جابر فياض العلواني ، مؤسسة الرسالة ، الطبعة الثانية: 1412ه\ 1992م .
(61) الرازي ، المحصول : 1/352 إلى 362 وتاج الدين السبكي ، الإبهاج 1/322 الى 336 مطبعة التوفيق الأدبية القاهرة .
(62) فتحي الدريني ، المناهج الأصولية : 27 دار الرشيد للطباعة والنشر الطبعة الأولى ، دمشق 1975 م .
(63) الشاطبي ، الموافقات : 2/331 .
(64) الموافقات : 3/237 .
(65) حمو النقاري ، المنهجية الأصولية ، 134 الشركة المغربية ولادة، الدار البيضاء، المغرب الطبعة الاولى،1411ه-1991م
(66) المنهجية الأصولية : 24 .
(67) القاضي عبد الجبار ، المحيط بالتكليف : 12 تحقيق عمر السيد عزمي، الدار المصرية للتأليف والترجمة .
(68) إمام الحرمين ، البرهان في أصول الفقه : 1/101 وما بعدها .
(69) الغزالي ، المستصفى : 54 .
(70) أبو الحسين البصري ، المعتمد في أصول الفقه 1/339 .
(71) المعتمد في أصول الفقه 1/335 والقاضي عبد الجبار ، المغني في أبواب التوحيد والعدل : 6/73 .
(72) المعتمد في أصول الفقه : 1/337 .
(73) الشهرستاني : نهاية الإقدام في علم الكلام : 300 وما بعدها ، تصحيح الفرد فيوم مكتبة المثنى ببغداد .
(74) القاضي عبد الجبار، المغني في أبواب التوحيد والعدل: 2/283 تحقيق إبراهيم الأبياري .
(75) المغني في أبواب التوحيد والعدل : 2/257 .
(76) القاضي عبد الجبار ، متشابه القرآن : ص 95 .
(77) عبد الكريم عثمان ، نظرية التكليف : 23 .
(78) امام الحرمين ، البرهان في أصول الفقه: 1/105 .
(79) الآمدي ، الإحكام في أصول الأحكام 1/215 .
(1) أحمد العلوي ، الطبيعة والتمثال: ص 212 الشركة المغربية للناشرين المتحدين مطبعة المعارف الجديدة ، الرباط 1988 م .
(80) الماكلاتي : لباب العقول : ص 276 ، تحقيق فوقية حسين محمود ، دار الأنصاري القاهرة ، مصر الطبعة الأولى 1977م .
(81) الرازي ، محصل أفكار المتقمين : ص 133 ، الطبعة الحسينية المصرية ، الطبعة الأولى .
(82) ابو الحسين البصري ، المعتمد في أصول الفقه : 1/316 .
(83) أحمد العلوي ، الطبيعة والتمثال : 210 .
(84) ابن تيمية ، كتاب النبوات : ص 266 – 267 .
(85) القاضي عبد الجبار ، المغني في أبواب التوحيد والعدل : 15/162 .
(86) الشاطبي ، الموافقات : 2/8 وما بعدها .
(87) المغني في أبواب التوحيد والعدل: 16/347 ، تحقيق أمين الخولي، القاهرة : 1965م .
(88) ابن القيم الجوزية ، اعلام الموقعين : 1/305 ، ادارة الطباعة المنيرية القاهرة .
(90) سورة الانعام ، الآية : 82 .
(91) سورة لقمان ، الآية : 12 .
(92) محي الدين بن عربي ، الفتوحات المكية 1/135 – 136 .
(93) حمو النقاري ، المنهجية الأصولية : 28 .
(94) عبد القاهر الجرجاني ، دلائل الإعجاز : 221 .
(95) حمو النقاري ، المنهجية الأصولية : 29 .
(96) النسائي 8/209 ( باب ذكر ما ينبغي للحاكم أن يتجنبه) .
(97) ابن القيم الجوزية ، اعلام الموقعين : 1/188 .
(98) اعلام الموقعين 3/137 .
(99) ابن تيمية ، مجموعة فتاوي ابن تيمية : 20/496 .
(100) السيد أحمد عبد الغفار ، التصور اللغوي عند الأصوليين : 117 .
(101) االشافعي ، الرسالة : 52 .
(102) حمو النقاري ، المنهجية الأصولية : ص 97 .
(103) ابن تيمية : نقض المنطق : 71 ، تحقيق محمد حمزة وسليمان الصنيع الطبعة الأولى 1370 هـ .
(104نقض المنطق : 71 .
(105) ابن القيم ، ، اعلام الموق 1/219 .عين : 1/219 .
(106) حمو النقاري ، المنهجية الأصولية : 98 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق