أهداف منتدى اللسان العربي والخطاب الشرعي: تقديم خدمات متنوعة للطلبة، محركات بحث كثيرة، أخبار العالم من خلال أغلب الجرائد العربية الناجحة، مقالات علمية، مواقع للبحث العلمي، أخبار متنوعة من قنوات عالمية،موسوعات، فهارس خزانة كلية الآداب بني ملال المغرب...إضافة إلى خدمات أخرى ...

الأحد، 20 أبريل 2008

اللغة والإنسان

بقلم الأستاذ: إدريس ميموني
تقديــــم:
إن البحث في قضية اللغة مهما كان منهجه ومرماه يحيلنا مباشرة إلى مشكل علاقة الإنسان باللغة في أصل اتصاله بها ثم في مدى انحصاره فيها. والتراث العربي في منطوقه ومضمونه قد زخر بتساؤلات مبدئية تمحورت حول ديمومة الإنسان باللغة منذ المبتدأ.
والتفكير في هذا الاتجاه المجرد قد كان في تنوعه وطرافته، على قدر ما كان يلامسه من مضايقات التناقض الحتمي في محاولة المفكرين النظر في علاقة الإنسان باللغة من حيث كانوا يفكرون في اللغة وباللغة في الوقت نفسه.فالقضية المبدئية إذن تنحصر في موقف منهجي حاول فيه الناظرون تأمل هذا المشكل ببعد فكري افترضوه والتزموه حيال اللغة التي استحالت مادة للفكر وموضوعا له.
إن الناظر في تراث التفكير العربي يدرك بيسر أن رواده كانوا ينزلون الإنسان منزلة اللغة في لحظة التحديد ذاتها.فالحد المميز للغة لا يتخصص إلا بدخول عنصر الإنسان فيه. يقول ابن جني:«حد اللغة أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم» الخصائص 1/33. كما أن حد الإنسان لا يتخصص إلا بدخول عنصر اللغة فيه، ففي مستوى التعريف المنطقي للإنسان تمثل الظاهرة اللغوية المحور الفقري الذي تتولد عنه مجموعة الفوارق التمييزية على الصعيد الوجودي والمعرفي عامة. ولا يكاد يخلو تعريف للإنسان سواء على نهج الفلاسفة أو المتكلمين، أو على طريقة الأدباء واللغويين، من قصر سمة التمييز الإنساني على ظاهرة الكلام فهو (الحيوان الناطق). فيكون النطق (الفصل الذاتي) ضمن عناصر تركيب الحد المنطقي، وهذا ما استوجب اعتبار «النفس الناطقة، هي الإنسان من حيث الحقيقة» على حد عبارة الشهرستاني في كتابه (نهاية الإقدام في علم الكلام) ص:325.
ولئن اندرج الإنسان في جنس الحيوان تبعا لمقتضيات التصنيف المتدرج للكائنات، فإنه بالكلام ينفصل عن الحيوانية ليتفرد بنوعه، فيكون الكلام بذلك جوهر الإنسانية في الإنسان، لذلك يلح المنظرون على سمة الانفصال بين الحيوانية والإنسانية ابتداء من الحد اللساني. ففي الكلام فضل الإنسان على سائر الحيوان وتكريم الخالق له، وبالكلام يخرج الإنسان عن حريم البهيمية ليدخل حد الإنسانية.
فالمنهج التعريفي يطوف بالإنسان بين عناصر الوجود متركزا أساسا على الحدث اللساني الذي يبوء الآدمي مركز الوجود في الكون، وفي هذا السياق يعمد فخر الدين الرازي إلى استطراد، منطلقه الآية القرآنية ﴿وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب﴾ سورة: ص، الآية:20. منبها فيه على «أن أجسام هذا العالم على ثلاثة أقسام: أحدها ما تكون خالية عن الإدراك والشعور وهو الجمادات والنباتات، وثانيها التي يحصل لها إدراك وشعور، ولكنها لا تقدر على تعريف غيرها الأحوال التي عرفوها في الأكثر، وهذا القسم هو جملة الحيوانات سوى الإنسان، وثالثها الذي يحصل له إدراك وشعور ويحصل عنده قدرة على تعريف غيره الأحوال المعلومة له، وذلك هو الإنسان، وقدرته على تعريف الغير الأحوال المعلومة عنده، بالنطق والخطاب» مفاتيح الغيب:26/187.
فإذا كانت جل هذه التأملات مرتكزة على تحسس روابط اللغة بالإنسان من حيث هو وجود فردي فإن الفكر اللغوي في التراث العربي قد عني بتحول قيم الظاهرة اللغوية من الوجود الفردي إلى الوجود الجماعي في المجتمع الإنساني، وبذلك فحص الدارسون أبعاد الكلام باعتباره قيمة جوهرية بين الإنسان والمجتمع.
وأول أسس هذا البحث هو اعتبار الكلام محور الاجتماع البشري، وإلى ذلك ذهب حازم القرطاجني حيث جعل حتمية حضور العامل اللغوي في استقامة تعايش الناس، سواء في تفاهمهم أو في تعاونهم على تحصيل المنافع وإزاحة المضار واشتقاق حقائق الأمور (منهاج البلغاء:344). وقد ألح الغزالي أيضا على البعد الجماعي في ظاهرة الكلام مبرزا أن الإنسان بدون خطاب لا يكون إلا حبيسا لذاته. وهو ما يؤول إلى اعتبار العامل اللغوي حبل التواصل بين الفرد والجماعة التي يعايشها (المستصفى: 1/65).
فالكلام وإن كان أداة تعبير في منطلقه فهو وسيلة لبلوغ الفرد غاياته من الجماعة، ولهذا السبب اعتبر إخوان الصفا أنه «ما من أحد إلا وهو إذا عبر عما في نفسه بلغ غرضه في إفهام السامع عنه ما يريده على حسب استطاعته وما تساعده عليه آلاته» رسائل إخوان الصفا 3/121.
أما ابن جني فإنه إذ يستقرئ الظاهرة اللغوية ينبه إلى خاصية طريفة في علاقة الإنسان باللغة عبر الحاجة، تتمثل في وعي الكائن البشري بالتراهن القائم بين وجوده وتكامل بعده اللغوي حتى إن ابن جني يعزو تصرف الإنسان في بنية لغته إلى الوعي بضرورة سد الحاجة أولا وبالذات (الخصائص1/30). أما الجاحظ فيقول: «فلولا حاجة الناس إلى المعاني وإلى التعاون والترافد لما احتاجوا إلى الأسماء» الحيوان: 5/201.
1- مقصدية الدليل الكلامي :
من المسائل المسلم بها في تراثنا العرب الإسلامي، اعتبار الدليل الكلامي دليلا قصديا، وهو ما يميز الفكر اللغوي عند العرب والمسلمين بميزة تداولية أصيلة تربط الخطاب بمرسله ومتلقيه، وهي نظرة تجعل من اللغة انجازا فعليا واقعيا، وليست بنية مبتورة عن سياقها التواصلي، وحسبنا نسجل بهذا الخصوص تأكيد علماء العرب والمسلمين على المقصدية في الكلام، لأن اللغة إنما وضعت ليستفاد منها غرضها الذي وضعت له، وهو إقدار المتكلمين على التفاهم، ومعرفة بعضهم حاجات بعض، وقد ناقش الأصوليون هذه المسألة ضمن حديثهم عن الحكمة الداعية إلى وضع اللغة (عبد الحكيم راضي، نظرية اللغة في النقد العربي ص:62 مكتبة الخانجي، مصر 1950). يقول الآمدي «لما كان كل واحد لا يستقل بتحصيل معارفه بنفسه وحده دون معين ومساعد له من نوعه… دعت الحاجة إلى نصب دلائل يتوصل بها كل إلى معرفة ما في ضمير الآخر من المعلومات المعينة له في تحقيق غرضه، ولذلك استخدم الإنسان ما يتركب من المقاطع الصوتية، التي خص بها نوع الإنسان، دون سائر أنواع الحيوان، عناية من الله تعالى به… ومن اختلاف تركيبات المقاطع الصوتية، حدثت الدلائل الكلامية والعبارات اللغوية.» الآمدي، الإحكام في أصول الإحكام 1/16-17.
فاللغة هي الوسيلة الوحيدة لقضاء حوائج البشر والتفاهم بينهم وهي الوسيلة الأكثر طواعية لأنها وجدت استعدادا طبيعيا في الإنسان، الأمر الذي مكنه من استخدامها بشكل تلقائي (عبد الحكيم راضي، نظرية اللغة في النقد العربي : ص 64) وقد تبع حديثهم عن هذه الوظيفة وما تستوجبه من مقتضيات، الحديث عن ضرورة الوضوح في الكلام حتى لا يحتاج إلى تخريج باطن. يقول ابن حزم في الرد على أصحاب التأويل الباطن «وقد علم كل ذي عقل أن اللغات إنما رتبها الله عز وجل ليقع بها البيان، واللغات ليست شيئا غير الألفاظ المركبة على المعاني، المبينة عن مسمياتها … فإذا لم يكن الكلام مبينا عن معاينه فأي شيء يفهم هؤلاء … عن ربهم تعالى، وعن نبيهم r ؟ بل بأي شيء يفهم به بعضهم بعضا» (ابن حزم ، الإحكام في أصول الأحكام: 3/39، مكتبة الخانجي الطبعة الأولى 1345هـ).
وهذا ما تؤكده تعريفاتهم للكلمة والكلام واللغة. فصارت الكلمة هي «اللفظة الموضوعة للمعنى مفردة، والمراد بالإفراد أنها بمجموعها وضعت لذلك المعنى دفعة واحدة» (السكاكي، مفتاح العلوم: ص4 ، الطبعة الأولى مصطفى البابي وأولاده بمصر 1356-1937 هـ)
أما الكلام فهو : «كل لفظ مستقل بنفسه مفيد لمعناه ، وهو الذي يسميه النحويون الجمل» (ابن جني ، الخصائص: 1/17 . تحقيق محمد النجار القاهرة مطبعة دار الكتب المصرية 1952 – 1956) وهو عند ابن سنان الخفاجي ما «يتعلق بالمعاني والفوائد بالمواضعة» (ابن سنان الخفاجي ، سر الفصاحة : ص33 شرح وتصحيح عبد المتعال الصعيدي مطبعة محمد علي صبيح، القاهرة 1389هـ – 1969م). وأما اللغة فهي عند ابن جني «أصوات يعبربها كل قوم عن أغراضهم» (الخصائص : 1/33). وهي عند ابن سنان الخفاجي«عبارة عما يتواضع القوم عليه من الكلام» (ابن سنان : سر الفصاحة : ص 39). وهي عند الأسنوي «عبارة عن الألفاظ الموضوعة للمعاني» (السيوطي، المزهر: 1/8 تحقيق محمد أحمد جواد المولى وآخرون دار احياء الكتب العربية القاهرة). أما عند ابن خلدون فهي «عبارة المتكلم عن مقصوده، وتلك العبارة فعل لساني، فلابد أن تصير ملكة متقررة في العضو الفاعل لها، وهو اللسان في كل أمة بحسب اصطلاحاتهم» (ابن خلدون، المقدمة ص: 603 دار الجيل بيروت لبنان)
إن أهم ما يميز هذه التعريفات، هو الحضور اللازم لمتصور القصد في تنزله ضمن محركات الحدث اللساني الكامن وراء قانون المواضعة، وبذلك يصبح متعلقا بمفهومين ملابسين له في حقله الدلالي وفي اقتضائه التصوري، وهما مفهوم الإرادة ومفهوم الاعتقاد، وينصبان معا في مبدإ النية كمتصور تشريعي، فلا نتحدث عن ضرورة القصد في عملية التخاطب والإبلاغ إلا ونعني قيام هذه الجملة من الشروط الفرعية معه.(عبد السلام المسدي، التفكير اللساني في الحضارة العربية: 148، الدار العربية للكتاب ليبيا تونس، 1981م) وهذا ما يدل دلالة واضحة على أن حذق اللغة ليس مرتبطا باللغة ذاتها بل بمستوى الإنجاز والاستعمال، وبذلك تأخذ اللغة بعدها الحقيقي في العملية التواصلية التي لابد فيها من الالتزام بنظام اللغة، مع استحضار السياق أو المقام التواصلي، مع حسن التقدير في الإلقاء والتلقي، يقول ابن خلدون «إعلم أن اللغات كلها ملكات شبيهة بالصناعة، إذ هي ملكات في اللسان للعبارة عن المعاني، وجودتها وقصورها بحسب تمام الملكة أو نقصانها، وليس ذلك بالنظر إلى المفردات، وإنما هو بالنظر إلى التركيب، فإذا حصلت الملكة التامة في تركيب الألفاظ المفردة للتعبير بها عن المعاني المقصودة ومراعاة التأليف الذي يطبق الكلام على مقتضى الحال، بلغ المتكلم حينئذ الغاية من إفادة مقصوده للسامع» (ابن خلدون : المقدمة، ص613، دار الجيل بيروت). أما عبد القاهر الجرجاني فقد عد شخص المتكلم شرطا ترتد إليه اللغة في ظاهرة الكلام وإنجاز الخطاب، مادامت اللغة مجرد رموز وسمات معبرة عن قصد صاحبها يقول: «وإذ قد ثبت أن الخبر وسائر معاني الكلام، معان ينشئها الإنسان في نفسه، ويصرفها في فكره ويناجي بها قلبه، ويرجع فيها إليه، فاعلم أن الفائدة في العلم بها واقعة من المنشئ لها صادرة عن القاصد إليها» (عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز : 418 محمود شاكر مكتبة الخانجي القاهرة الطبعة الثانية 1410 - هـ 1989 م).
ويرى عبد القاهر تبعا لذلك أن مستويات العملية اللغوية لا تقوم إلا على:
1. القصد إلى الاخبار بمعنى.
2. تعليق معنى كلمة بمعنى كلمة أخرى.
3. اعلام السامع بالخبر عن طريق تعليق الكلمات، لا عن طريق الكلمة المفردة.
4. ضرورة وجود ألفاظ ورموزمتواضع عليها، يكون العلم بمعناها مشتركا بين المتكلم والسامع (محمد دنياجي ، التفكير اللغوي عند عبد القاهر الجرجاني، قراءة في اللغة ولغة الخطاب: 158). يقول عبد القاهر الجرجاني . «وليت شعري كيف يتصور قصد منك إلى معنى كلمة دون أن تريد تعليقها بمعنى كلمة أخرى، ومعنى القصد إلى معاني الكلم أن تعلم السامع بها شيئا لا يعلمه، ومعلوم أنك أيها المتكلم لست تقصد أن تعلم السامع معاني الكلم المفردة التي تكلمه بها، فلا تقول (خرج زيد) لتعلمه معنى (خرج) في اللغة ومعنى (زيد) ، كيف ومحال أن تكلمه بألفاظ لا يعرف هو معانيها كما تعرف؟ ولهذا لم يكن الفعل وحده من دون الاسم، والاسم وحده من دون اسم آخر أو فعل كلاما، وكنت لو قلت (خرج) ولم تأت باسم ولا قدرت فيه ضمير الشيء، أو قلت (زيد) ولم تأت بفعل ولا اسم آخر ولم تضمره في نفسك، كان ذلك وصوتا تصوته سواء»( دلائل الإعجاز : 315 – 316).
3) مقصدية اختصاص الإنسان باللغة.
تعتبر مسلمة اختصاص الإنسان باللغة من الثوابت الموجهة لمسار البحث في تراثنا العربي الإسلامي، فلما كان البعد اللغوي العنصر المحدد في بروز خصوصية الإنسان ضمن الموجودات، فقد تعين النظر في ملابسات ارتباط الإنسان بالكلام من جهتين:
1. كونية الظاهرة بالنسبة للإنسان .
2. تهيؤ الإنسان لها (عبد السلام المسدي : التفكير اللساني في الحضارة العربية : ص 48).

ففيما يخص كونية ظاهرة الكلام في الإنسان فتتجلى في كون الحدث اللساني ملازم للوجود البشري مهما تباعد المكان أو تعاقب الزمان .
وأما تهيؤ الإنسان لها فتتجلى في الاستعداد الخلقي لأداء ما لا تتم الظاهرة اللغوية إلا به ، وهو حدث التصويت والتقطيع، وهو ما يصطلح عليه ابن جني بقابلية النفوس (عبد السلام المسدي : التفكير اللساني في الحضارة العربية: ص 48). يقول ابن سنان «لما كانت الطبيعة الإنسانية محتاجة إلى المحاورة لاضطرارها إلى المشاركة والمجاورة، انبعثت إلى اختراع شيء يتوصل به إلى ذلك، ولم يكن أخف من أن يكون فعلا، ولم يكن أخف من أن يكون بالتصويت وخصوصا والصوت لا يثبت ولا يستقر ولا يزدحم، فتكون فيه مع خفته فائدة وجود الإعلام به مع فائدة انصحائه إذ كان مستغنيا عن الدلالة به بعد زوال الحاجة عنه، أو كان يتصور بدلالته بعده، فمالت الطبيعة إلى استعمال الصوت ووفقت من عند الخالق بآلات تقطيع الحروف وتركيبها معا، ليدل بها على ما في النفس من أثر» (ابن سنا، كتاب العبارة ص2 نقلا عن عبد الحكيم راضي: نظرية اللغة في النقد العربي ص: 62). وإذا كانت تأملات المفكرين العرب قد تحسسوا روابط اللغة بالإنسان على مستوى وجوده الفردي، فإن الفكر اللغوي العربي قد اهتم أيضا بمستوى تحول الظاهرة من الوجود الفردي إلى الوجود الجماعي في المجتمع الإنساني ومن ثم فحصوا مقاصد الكلام وأبعاده باعتباره قيمة جوهرية بين الإنسان ومجتمعه. (التفكير اللساني في الحضارة العربية، ص: 50) وقد ألح الجاحظ على جعل صيغة الإرتباط بين الإنسان واللغة ارتباطا قارا على محوري النوع والزمن، وهو ما يفسر أن وجود الإنسان متراهن مع تولد الحاجات، وأن سد الحاجات متعذر خارج حدود اللغة، وبذلك جعل الجاحظ «الحاجة إلى بيان اللسان حاجة دائمة وآكدة وراهنة ثابتة» (الجاحظ، الحيوان : 1/48 تحقيق وشرح عبد السلام هارون مكتبة مصطفى البابي الحلبي ، الطبعة الأولى. 1357 هـ).
أما ابن جني فقد نبه – وهو بصدد استقراء خاصية الكلام عند الإنسان – إلى التراهن القائم بين وجود الإنسان، وتكامل بعده اللغوي المتمثل في ضرورة سد الحاجة أولا وبالذات حيث يقول:«وذلك أنهم وزنوا حينئذ أحوالهم وعرفوا مصاير أمورهم ، فعلموا أنهم محتاجون إلى العبارة عن المعاني» (ابن جني الخصائص : 2/30).
اما ابن وهب الكاتب وفي سياق بحثه عن علة الحدث اللساني في الوجود، وأسرار الغايات التي يفضي إليها الكلام في الحياة البشرية، فقد أبرز جملة من العناصر التي تؤدي مقاصد الكلام وهي : عموم النفع و كمال النعمة وبلوغ الغاية وحصول المقصد. (ابن وهب الكاتب، البرهان في وجوه البيان: ص66 تحقيق أحمد مطلوب وخديجة الحديثي بغداد الطبعة الأولى 1967م).
وعلى هذا النمط من التحليل والاستدلال خلص عبد القاهر إلى نتيجة تجعل من الكلام المحرك لخروج كوامن الانسان وطاقاته من حيز القوة إلى حيز الفعل، إذ لولاه «لم تكن لتتعدى فوائد العلم عالمه، ولاصح من العاقل أن يفتت عن أزاهير العقل كمائمة، ولتعطلت قوى الخواطر والأفكار عن معانيها، واستوت القضية في موجودها وفانيها… ولكان الإدراك كالذي ينافيه من الأضداد، ولبقيت القلوب مقفلة على ودائعها، والمعاني مسجونة في مواضعها، ولصارت القرائح عن تصرفها معقولة والأذهان عن سلطانها معزولة» عبد القاهرالجرجاني، أسرار البلاغة: ص1 تصحيح محمد عبده طبعة المنار القاهرة.
إن المنهج اللغوي الذي ذكرنا بعض ملامحه عند علماء المسلمين، يعتبر خلاصة تجربة عميقة ظلت خلالها أجيال الباحثين المخلصين ينقبون للتعرف على مقاصد الكلام وفضله وأبعاده، وهم يدركون أن البحث في أسرار اللسان العربي، هو بحث في السليقة اللغوية لهذه الأمة وهو في جوهره «دراسة لأسرار الإنسان، وتعرف على أخفى وأغمض ما يختلج في بواطنه من حس وشعور، وأن العناية بالأحوال والكيفيات والتراكيب ليست إلا بحثا في أسرار القلوب والعقول الماثلة في أسرار الكيفيات والتراكيب، وأن المعنى الخفي الغامض والمستكن وراء هذا الحال من أحوال اللفظ العربي، إنما هو تلك الإختلاجة الخفية والغامضة في باطن النفس التي ابدعت هذا التركيب» (محمد أبو موسى، دلالات التراكيب، دراسة بلاغية: ص 25، دار التضامن مكتبة وهبة، الطبعة الثانية 1408هـ – 1978م) وهو ما يحيلنا مباشرة إلى مشكل علاقة الإنسان باللغة في أصل اتصاله بها ثم في مدى انحصاره وعلى ضوء هذه الثوابت كان فهم علماء العرب للغة على مستوى التنظير فنزلوها على مقتضى حقيقتها في مستوى التطبيق كما اتضح من خلال دراستهم لها.

ليست هناك تعليقات:

ابحث

ندوة البحث العلمي الجامعي وتحديات التنمية الجهوية بكلية الآداب ببني ملال

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

48295
Google
دليل العرب الشامل الجزيرة نت سوالف المنتديات
شكرا على الزيارة ... عدد مرات زياراتك لموقعنا هو NaN مرة.

محرك جوجل

محركات للبحث